دم المماليك (5).. هل قتل الظاهر بيبرس نفسه؟!

طريق حلب – دمشق.. منتصف عام 1277م

القافلة السلطانية الصامتة تشتد في سيرها نحو دمشق -العاصمة الشامية للسلطنة المملوكية- حاملة النذير المريع: السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري يحتضر.

تتعدد الأسباب والاحتضار واحد، لكن من كان يتخيل أن سلطان البرين وسيد البحرين وخادم الحرمين الشريفين، قاهر المغول وكاسر الفرنجة وعزيز مصر والشام وجزيرة العرب وأرض الأناضول، يفتك به مرض تافه كالإسهال؟

لم تنل منه جحافل المغول قبل وبعد عين جالوت، ولا كتائب فرسان الفرنجة بكونتاتها ومقدمي إسبتاريتها وداويتها، ولا مؤامرات المخامرين والمنشقين من أمراء المماليك، ونالت منه طفيليات البطن وأدواء الأمعاء!

كان اسما على مسمى، فـ “بيبرس” تعني الفهد، وكان مثله سريعا قويا مثابرا صلبا.

يذكر بعض أمرائه، أنهم كانوا في بعض المعارك الضارية يفتقدونه فجأة، ثم يجدونه عائدا يشق الأفق كمارد أسطوري فوق صهوة جواده وهو يحمل خوذة أو درعا كانا لبعض فرسان العدو، بل وربما قطعة من باب الحصن الذي يحاصرونه.. كيف ومتى غافلهم واختفى ليخترق جحافل الأعداء ويعود سالما؟ لا أحد يدري.

يحكي آخرون أنه كان في وقت صفائه يتسلى بأن ينزل من قلعة الجبل ليسبح في النيل مرتديا كامل عدته ودروعه الحربية جارا وراءه طوفا تقف فوقه بضعة من الفرسان بكامل زيها.

عودّهم أن يكونوا مثله فهودا سريعة خفيفة الكر والفر، يظهر جيشه أمام حصون الفرنجة بالشام،  ينهي الحصار بفتح أو هدنة مشروطة لصالح الجيش المصري، يختفي ليباغت بعض المتآمرين بسوريا، يسّيّر أسطولا إلى قبرص، يسحق تمردا بالنوبة، يدمر خطة للمغول وينهيها بضمه الأناضول، يطوف ببلدان الشام لينظم أحولها،  يزور الأراضي الحجازية المقدسة، يدير الحكم من قلعة الجبل بالقاهرة، يفاجيء العمال في انشاءات على ضفاف النيل خالعا ثيابه الملكية مشاركا البنائين حمل التراب والحجارة فوق أكتاف حديدية لوحتها الشمس، ينظم حركة البريد بين أطراف المملكة حتى تصل الرسالة من القاهرة لدمشق في أيام ثلاثة لا غير.. يقسم مهام الحكم لمؤسسات ومناصب لكل منها وظيفته وفقا لقانون صارم.. ينظم السلطة القضائية، فيجعل لكل مذهب قاضيه تيسيرا على الناس.. يعيد إحياء الأزهر كمؤسسة علمية فالسلطان معروف بعدائه الشديد للجهل، حتى الخواطي والبغايا ينالهن نصيب من نشاطه، فيقبض عليهن ويترب لهن الوعظ الرفيق والاستتابة، ثم يجهزهن ويزوجهن ليكفيهن الاضطرار لتجارة الجسد.

لا أحد يعرف متى وكيف ينام.. ما هي تلك الروح الخارقة التي تتلبسه لتجعل منه كتلة من الهمة والحماسة تتأجج بالنشاط والحركة؟!

هل حلت فيه بعض أرواح أجداده من مقاتلي قبائل القفجاق التركية؟ هل هي بركة من قربهم إليه من أقطاب الصوفية ودراويشها؟ هل أصابته بخير بعض دعوات المجهولين لمن حملوا السيف يدافعون عن دماء وأعراض الناس ضد المغول والفرنجة؟

يقال إن البعض ينال نصيبا من اسمه، لكن هذا الرجل اسمه بيبرس -الفهد-هو الذي نال النصيب من صاحبه!

والآن، يرقد هذا الفهد، المارد، السلطان القدير، فوق محفة تسابق الموت إلى دمشق كي لا يختطفه قابض الأرواح قبل تنظيم الانتقال الهاديء للسلطة إلى ابنه ووريثه الشرعي محمد بركة خان، والذي أشركه أبوه قبل سنوات في الحكم ليضمن له ولاية عهده.

تقترب دمشق.. يتنفس الأمراء الصعداء، يلهبون ظهور مطاياهم لتنهب بهم الكيلومترات الباقية، لكن على مسيرة يوم واحد من المدينة يدلف زائر إلى خيمة السلطان، زائر لا يأتي الإنسان إلا مرة واحدة ليحمل روحه إلى بارئها، ويترك جسده لغيره من البشر الفانون ليحملوه إلى حفرة وسط التراب.

……….

في الخيمة السلطانية إلى جوار الجثمان العظيم اجتمعوا، الأمراء سيف الدين قلاوون وبدر الدين بيليك وعلم الدين سنجر وشمس الدين سنقر وغيرهم.. اتفقوا بغير جدل يذكر أن يخفوا الخبر حتى عن جند القافلة وأن يرسلوا لولي العهد بالخبر الأليم ليقطعوا على أي متآمر طامع الفرصة لاستغلال موت السلطان ليبادر بأية محاولات انقلابية.. انقضى النقاش فتدثروا بالصمت إلى من همهمة جانبية أو استرجاع خافت أو تنهيدة حزن مرة.

قطع الأمير قلاوون الصمت مغمغما: ما كان للأطباء أن يطيعوه في نزع رأس ذلك السهم الذي أصابه في تلك المعركة الأخيرة.

اعتدل سنقر متسائلا: “تشك بالأطباء؟ أعني.. هل تراودك أفكار أن بعضهم سمم الجرح عمدا؟!”

– “لم أفكر في ذلك.. لكن.. أن تعلم أن رحمه الله لم يكن يكترث لأوامر الراحة،  ونحن كنا في أرض تكثر بها الأسقام، ونزع نصل من الجسد في هذه الأجواء ليس بالقرار الحكيم.. فربما كان هذا ما أدخل إلى جسده الآفة وجعل به التلف السريع”

تدخل بيليك بالتركية القفجاقية التي كان يدور بها الحوار: “المرحوم لاقى ما هو أشد من ذلك، وقد حباه الله جسدا قوي التحمل.. والواقع أني أرى غير ذلك من الأسباب” رمق سنقر مردفا بحذر “لكني أخشى أن يسيء بعضكم فهمي”

داعب سنقر شاربه الأشقر الكث وقد التقط الغمزة بحلم وهدوء ثم قال: “أنت تتحدث عن الدواء الذي نصحته باستخدامه في وعكته الأخيرة.. لا بأس، قلها بصراحة، هل تشك  أنني نصحته به لأعجل بهلاكه؟”

انتفض بيليك قائلا بلهجة اعتذارية سريعة “حاشاي أمير سنقر! ها أنت قد أسأت فهم غرضي! أنا فقط أقصد أن أقول إن المرحوم قد أفرط في استخدام هذا الدواء فوق ما يحتمل أي إنسان، فقوي عليه الإسهال حتى استصفى ما في جسده من سوائل.. أنت نفسك نصحته بحضرة الأمراء ألا يفرط في تناوله، لكنك تعلم كيف كان عناده! هذا ما كنت أعنيه!”

حاول علم الدين سنجر تخفيف حدة التوتر الذي انتاب الحوار، فتدخل قائلا: “يا أمراء، لا داعي لتبادل ظنون السوء.. كلنا كنا خاصة ورفاق وخدم السلطان الراحل، والآن بقيت له في عنقنا خدمة أخيرة -أعني انتقال السلطنة لابنه أعزه الله- فليس من مجال لهذه الأحاديث”

أمن قلاوون على قوله بتربية من يديه، على كتفي كل من سنقر وبيليك.. قام من مقعده وسار نحو الفراش المسجاة فوقه جثة رفيق عمره.. قاوم عاصفة من الألم انتابته وقمعها عن أن تبدو فوق وجهه الصخري.. بعد فترة من الصمت قال بهدوء حذر: “الواقع أنني أفهمكم جميعا.. أنتم تدورون حول ظن يكبته كل منكم في نفسه خوفا من سوء العاقبة!”

– “أي ظن؟!” تمتم بها سنجر وقد مس قول قلاوون منطقة حساسة في داخله.

التفت لهم قلاوون قائلا بصلابته المعهودة: “أعني ظنكم أن السلطان في حقيقة الأمر.. قد قتل نفسه!”

……….

دمشق.. قبل ذلك اليوم بأسبوعين.

أن يأمر السلطان ساقيه أن يقدم لك كأسا من شراب القمز -لبن الخيل المتخمر- المفضل عند المماليك، فهذا شرف عظيم.. فما بالك بأن يقدم لك السلطان بنفسن الشراب في الكأس السلطانية؟

تناول الأمير القاهر الأيوبي الكأس من يد السلطان، وقد اطمئن أن حركة كهذه، لا تعني إلا أن هذا الأخير قد رضي عنه بعد سخطه السابق من اشتداد الأمير في اللوم عليه لمخاطرته برجاله في مغامرته الحربية الأخيرة ببلاد الأناضول.

تبادل الأمراء النظرات وقد علت وجوههم علامات الارتياح لصفاء نفسا الرجلان بعد احتداد واحتداد متبادل وتوتر الأجواء.. فآخر ما قد يرغب فيه أحد هو مشاحنة حادة بين رجلين تلهج الشام ببطولتيهما خلال تلك الحرب الأخيرة ضد الموالين للمغول في بلاد الأناضول.. فقط  تداول الأمراء بعض نظرات الاندهاش من إفراط السلطان في شرب القمز، فرغم اعتداده بقوة تحمله وصلابة بنيته، إلا أنه لم يكن من المفرطين في ملذات الجسد من طعام وشراب.

استرخى قلاوون في مقعده وهو يتأمل رفيقه السابق وسلطانه الحالي بيبرس.. استرجع في ذهنه سريعا رحلة كفاحهما الطويلة والمريرة منذ هربهما من مصر  بعد اغتيال أقطاي، ثم تنقلهما ورفاقهما بين ملوك بني أيوب بالشام، فعودتهم جميعا لمصر وتصالحهم مع قطز توحيدا للصف ضد المغول، ثم تصفيتهم الحساب الأخير مع قطز لتنتهي رحلة بيبرس بتربعه على كرسي السلطنة وتوليته رفاقه المناصب الكبرى بالدولة.. ارتسمت على وجه قلاوون ابتسامة هادئة وهو يتأمل شعيرات بيضاء بدت في لحية بيبرس.

أخرجته من تأملاته رجفة متوترة انتابت الجانب الأيسر من فم السلطان.. لمحه ينظر في كأسه، ثم يرمق بطرف عينه ضيفه الأمير القاهر.. يعيد البصر للكأس.. ثمة شيء ما ليس على ما يرام.. السلطان تبدو على وجهه علامات التوعك.. يقوم قلاوون من مقعده متظاهرا بالهدوء متجها لبيبرس.. يضع يده على كتفه -وحده من يستطيع التصرف معه بتلك الأريحية- يقبض بيبرس ذراع رفيقه، يجذبه هامسا في أذنه بلغتهما القديمة المشتركة” سأفض المجلس، ساعدني على الانتقال لغرفتي، لكن دون أن يشعر أحد.. وبنفس السرية أرسل لي الطبيب”

………..

انتهى قلاوون من سرد روايته على رفاقه.. عاد ليجلس بينهم وهم يقلبونها في رؤوسهم.. أخيرا قال سنقر “أمير قلاوون.. كلنا نعرف تلك الواقعة.. وكلنا بلغتنا أقاويل إن السلطان قد احتال للتخلص من الأمير القاهر بوضع السم له في كأس شرابه، ثم تبدلت الكئوس بطريق الخطأ.. وشعر السلطان بذلك عندما أحس السم يسري في أحشائه، لكنه كتم الأمر كيلا تنكشف خطته.. لكن ألا ترى معي أن القصة بها ما يجعلها غير مبلوعة؟”

أشار قلاوون بيده: “دعني قبل أي شيء أقول إنني لا أصدق تلك القصة.. ولنفس الأسباب التي أتوقع أن تذكرها..”

تدخل علم الدين سنجر: “السلطان لم يكن ليقدم على قتل شخص بهذه الطريقة المعقدة -والساذجة في نفس الوقت- لمجرد مشاحنة كلامية”

أمّن قلاوون على قوله “هذه واحدة”.

أضاف سنقر: “كما أن المرحوم قد توفاه الله بعد أسبوعين من الواقعة، فهل يحتاج السم لكل هذا الوقت؟”

– “وهذه الثانية” قال قلاوون: “كما أن ما قيل عن أن السلطان قد أصابته الغيرة من حديث أهل دمشق عن بطولة الأمير القاهر وثنائهم عليه هو السخف بعينه”

سأل بيليك: “ماذا عن ما تداولته بعض الهمسات من أن منجما أخبر السلطان أنه يرى في النجوم أن عظيما يموت في هذه الأيام، فأراد إبعاد الشؤم عنه، فتعمد قتل الأمير القاهر، ليوقع سهم النبوءة في نحر غيره؟”

واجهته نظرات الاستسخاف من الأمراء فقنع بها إجابة لسؤاله.

عادوا لصمتهم الأول.. قطعته صيحات من بعض الحرس، فأزاح بيليك ستار الخيمة ثم قال: “الأمير بكتوت قد وصل”.

قام سنقر وسنجر وقال الأول: “فلنلاقيه ونعطيه الرسالة ليبلغها الأمير.. أعني السلطان بركة خان ليرتب البيعة والتقليد لنفسه قبل أن يذاع خبر موت أبيه على الملأ”

أشار لهم قلاوون قائلا: “فلتذهبوا أنتم”، ثم التفت لجثة بيبرس: “فأنا أرغب في قضاء لحظات أخيرة مع رفيقي قبل أن ننقله لمثواه الأخير”.

تفهموا رغبته فغادروه وتركوه وحده مع الجثمان.. اقترب بتهيب، رفع الغطاء عن وجه رفيق عمره.. ارتسمت على وجهه ابتسامة حزينة.. تمتم وهو يعيد الغطاء موضعه: “إيه يا صديقي المشاكس.. تصر أن تجعل موتك لغزا مثيرا كما كانت حياتك”.

……….

ارتجت القاهرة -وبلاد السلطنة كلها- للخبر الجلل.

بكى الناس سلطانهم المحبوب، فقد أحبوه حتى نظم الشعراء والحكاءون  سيرته بصيغة شعبية زخرفوها بالأساطير والتهاويل.. “سيرة الظاهر بيبرس”.. جعلوه فيها مصريا أصيلا اختطفته يد وضمته للمماليك، نقلوه لمصاف أبطال أساطيرهم الخيالية وصاغوا قصة بطولة يتوارثها الرواة الدوارين وشعراء الربابة عبر أجيال وقرون.

لكن أهل السياسة لم يكونوا على نفس الإخلاص لذكراه، فبعد العهود والمواثيق الغليظة، غلبهم مبدأ “الحكم لمن غلب”، فانتزعوا أبناءه من فوق كرسي الحكم، وتربع قلاوون سلطانا على مصر والشام، ليجعل لأسرته مكانا خاصا في كتب التاريخ وقصص الحكام، ولتنضم دماء بعضهم للسيرة المكتوبة بخيط طويل من دم المماليك.

لكن هذه قصة أخرى.

(يتبع)

محتويات الموضوع