دم المماليك (3).. هل قطز هو الشريك الخفي في اغتيال أيبك؟

في مسألة اغتيال أيبك بعض من النقاط المثيرة للحيرة والتساؤل، فالواقعة في صورتها البسيطة المباشرة لا تخرج عن أن امرأة متطلعة للسلطة أصابها الغضب سواء من تهميشها عن الحكم أو من عودة زوجها لطليقته/زوجته الأولى، فدبرت قتله انتقاما، ثم ادّعت عبثا أن موته جاء قضاء وقدرا.

لكن، إن قبلنا هذا التفسير بالنسبة لأية امرأة، فإننا لا نستطيع أن نقبله بالنسبة لشجرالدر مع ما هو معهود منها من تأن شديد وميل للتخطيط المحكم وتأمين مسبق لجانبها قبل الإقدام على أية خطوة، فشجرالدر ليست بالتي تقدم على هكذا خطوة شديدة الخطورة -أعني قتل السلطان والزوج الذي يضفي على موقعها من الحكم الشرعية والحصانة- بتلك الصورة الانتحارية الرعناء، ثم بعد إتمامها تلك الخطوة، تبدأ في البحث عمن يحل محله ويسبغ عليها نفس الحصانة والشرعية فضلا عن الحماية من انتقام من يغضبهم قتل أيبك.

فالواقعة -في ضوء ما سلف ذكره عن شجرالدر- تدفعنا لطرح الأسئلة التالية:

– ما مدى تأثير عامل “الغيرة الزوجية” من رد أيبك طليقته أم علي، على قرار شجرالدر، بل وما موقع مشاعر تلك الأخيرة أصلا من الإعراب فيما يتعلق بقراراتها؟

– كيف فات شجرالدر أن تدبر لنفسها الشرعية والحماية في مرحلة ما بعد أيبك؟ أو بصيغة أخرى: ما الذي شجع شخصية عقلانية شديدة الدهاء كشجرالدر على اتخاذ خطوة التخلص من “ضمانة الحكم” بهذه الثقة؟

– كيف يتفق أن قرار شجرالدر الزواج من أيبك بالذات جاء بسبب قلة أتباع هذا الأخير وسهولة عزله لو حاد عن الطريق المرسوم له، مع سرعة قيام مماليكه بالقبض عليها وتسليمها لأرملة أيبك التي قتلتها؟

– كيف اتفق أن تراخى مماليك الصالح نجم الدين أيوب المخلصون لشجرالدر عن حمايتها من مصيرها، رغم شدة تعصبهم لها سابقا؟

– كيف يمكن لرجل مثل أيبك أدار ببراعة صراعاته مع خصومه وأظهر لهم قسوته وقوته أن ينتهي قتيلا لفخ، كاستدراجه لقضاء ليلة مع امرأة شرسة قد صار بينه وبينها ما صنع الحداد؟

فلنحاول إجابة كل سؤال على حدة.

……….

بداية: فإن منطلق اختيار شجرالدر أحد رجال زوجها الراحل نجم الدين أيوب لم يكن عاطفيا، فما اتفق عليه مؤرخو العصر المملوكي أن اجتماع رجال السلطان الراحل قد أسفر عن اختيار أيبك زوجا لشجرالدر بناء على أسباب عملية نفعية بحتة تتمثل في كونه ليس أقواهم ولا أقدرهم على التفرد بالحكم.. وشرطها تطليقه زوجته أم علي وهجرها هي وابنها لم يكن عن عاطفة غيرة، بل كان لضمان ألا يتعرض لأية مؤثرات أخرى بخلاف تأثيرها وتسلطها عليه، وحتى رجوعه سرا لطليقته وابنه لم يكونا السبب الرئيسي للصدام، بل كان ما بلغها من تقدمه لخطبة ابنة أحد الحكام الأيوبيين الأقوياء، مما يترتب عليه ازدياد قوته واكتسابه شرعية شخصية خارجة عن كونه زوج أرملة كبير الأيوبيين.. أي أن الخوف على المصلحة كان هو محرك الافتراق كما كان هو الدافع الأول للاتفاق.

والمثبت عن شجرالدر أنها لم تكن بالتي تغلبها مشاعرها الشخصية عن القيام بما هو واجب عليها لضمان المصلحة -عامة أو خاصة- بدليل سرعة وعقلانية تصرفها فور موت زوجها الأول نجم الدين أيوب، وهو حب حياتها، فقد سارعت لاتخاذ التدابير اللازمة لضمان استقرار الحكم وعدم تأثر العمليات العسكرية ضد الفرنجة في الدلتا، وأدارت بحنكة عملية التفاوض مع جيش لويس التاسع المهزوم، وبادرت لاستدعاء توران شاه ابن زوجها الراحل، ثم أطاحت به عندما تنمر عليها، وأدارت عملية الانتقال السلس للسلطة من توران شاه لها منفردة، ثم لأيبك معها كواجهة صورية، كل هذا خلال أشهر قليلة من وفاة السلطان نجم الدين، مما يشي بثبات انفعالي رائع وقدرة عالية على تحييد المشاعر عن اتخاذ القرارات الخطيرة.

ثانيا: فإن شجرالدر هي ممن يمكن وصفهم بأنهم لا تفوتهم شاردة ولا واردة، ويبدو هذا جليا من تحركاتها سالفة الذكر والتي تظهر درايتها العميقة بموازيين القوى في المملكة وقدرتها على استغلالها لصالحها، وكذلك علمها بالتحركات السرية لأيبك من رجوع لزوجته أم علي أو مراسلته لأمير أيوبي لخطبة ابنته، مما يعني أنها كانت تعرف جيدا من أين تؤكل الكتف، وكانت متأنية حريصة في كل تحركاتها.. وهو ما لا يتلاءم مع العفوية الظاهرية في جريمة اغتيال أيبك.

ثالثا: فإن ما هو معروف من ضعف جبهة أيبك مقابل قوة جبهة شجرالدر  ليس كافيا لتفسير الانقلاب الدرامي في موازين القوى لدرجة سرعة تسليمها لغريمتها وقتلها وتوريث الحكم -ولو ظاهريا- لعلي بن أيبك،  فكأنما -بل هو ما وقع بالفعل- قد فقدت شجرالدر بضربة واحدة كل ما تملك من قوة وحلفاء وولاء.. صحيح أن أيبك كان قد حرص في فترة حكمه أن يدمر كل خصومه كاشفا عن حقيقة أنه ليس ذلك الشخص الضعيف الذي افترضوه، لكن ليس بما يكفي لأن تستمر لجبهته كل تلك القوة بعد موته.

رابعا: فإن كل تحركات شجرالدر كانت تعتمد في جزء كبير منها على مكانتها المعنوية كأرملة للسلطان العظيم نجم الدين أيوب، ومسألة الرابطة الروحية بين السلطان/الأستاذ ومماليكه، والتي كانت من القوة والقدسية بحيث أنها تستمر حتى بعد رحيل الأستاذ، وهو ما بدا في حرص المماليك الصالحية على إشراكها في قراراتهم، وتصرفهم على نحو يفيد ضمنيا اعتبارهم أنها وريثة لإخلاصهم لسيدهم الراحل، فكيف تهاوت تلك الرابطة القوية بهذه السهولة بعد قتلها أيبك رغم أن هذا الأخير قد نكل بزملائه، فقتل أقطاي وشرد بيبرس وقلاوون وقتل واعتقل ونفى كبار المماليك الصالحية؟ المفترض أن يستميتوا في الدفاع عن الدعامة الأخيرة لشرعية تسلطهم على الحكم لا أن يتهاونوا في تسليمها لأعدائها.. ثمة رائحة لـ “صفقة كبير ما” في الأمر لتجعلهم يتخذون هذا الموقف المتراخي.. صحيح أنهم قد حاولوا أولا حمايتها، لكن ليس كما هو منتظر منهم.. وفي المقابل فإنها -كما يبدو واضحا- قد تصرفت بثقة شديدة في استمرار دعمهم لها.

وأخيرا: فإن أيبك الذي استأسد على خصومه وغلبهم وأظهر أن وراء الرجل اللين الطيب، رجلا قويا فاتكا لا يتورع عن اتخاذ أقسى التدابير لتدمير منافسيه قد سقط في فخ شديد السذاجة وخدعته بعض الكلمات المعسولة والقبلات وربما ليلة حميمية من شجرالدر التي يعرف جيدا أنها ليست بالتي تنسى الإساءة، فكيف سقط أيبك في هذا الشرك بتلك السهولة إن لم يكن هناك ما -أو من- شجعه على ذلك؟

كل تلك النقاط تقودنا لاستنتاج واحد: وراء ما حدث أمر دُبر بليل.. ووراء كل هذا الغموض يد خبيثة لعبت ببراعة.. فمن هو صاحب تلك اليد؟

……….

لو نظرنا للصورة الكاملة الشاملة.. واقعتا اغتيال أيبك ومقتل شجرالدر باعتبارهما موضوع واحد، وتقمصنا شخصية المحقق الجنائي الباحث في جريمة، لوجب علينا طرح السؤال الآتي: من هو المستفيد من كل ذلك؟

فلنتتبع خيط الأحداث،  فتتابعها بعد مقتل كل من أيبك ثم شجرالدر، أدى لإجلاس علي بن أيبك على أريكة السلطنة، ثم سرعان ما أطاح به قطز -نائب السلطنة في كل من عهده وعهد أبيه- ليصبح هو سلطان البلاد حتى اغتياله على يد بيبرس.

قطز إذن هو المستفيد الأول والأخير.. فهل يكون هو صاحب تلك اليد الخفية؟

الأمانة العلمية تلزمني أن أؤكد للقاريء مسبقا أن كل حديثي هذا لا يخرج عن النظرية القائمة على بعض الاستنتاجات التي لا تعدو بدورها أن تكون مجرد اجتهاد بشري قابل للصواب أو الخطأ.

……….

بعكس ما تقدم الأدبيات -بالذات ذات الصبغة الدينية- قطز، فإنه لم يكن ذلك الطيب الوديع المثالي، بل كان ببساطة شديدة “واحدا من قومه” يخوض فيما يخوضون من تآمر وصراعات وصدامات.. وهو ما لا يتعارض مع مكانته كبطل إسلامي، فالعصر العربي الإسلامي كله يزدحم بأولئك الذين جمعوا بين البطولة والتصارع لأجل السلطة.

بداية، فإن قطز كان من مماليك الصالح نجم الدين أيوب، وكان شريكا لهم في كل ما كان بعد موته، فكان بالتأكيد ممن شهدوا التخطيط لقتل توران شاه بعد تنكره لمماليك وزوجة أبيه.. ثم ظهر بشكل صريح في واقعة اغتيال أقطاي عندما حاول هذا الأخير تحدي أيبك ومنازعته السلطة، فكان على رأس من كمنوا له في القلعة وقتلوه وألقوا رأسه لمماليكه رغم ما هو مفترض من وجود علاقة زمالة بينهما.. وقد صار على أثر تلك الواقعة نائبا للسلطان، ربما على سبيل المكافأة له.

كذلك فإن فترة توليه نيابة السلطان وشغله موقع ذراعه اليمنى قد شهدت عملية التنكيل بالقتل والاعتقال والنفي ضد المماليك الصالحية من رجال نجم الدين أيوب، ولا يمكن أن يكون كل ذلك قد مر عليه مرور الكرام دون أن يكون شريكا فيه سواء بحكم منصبه أو لكون أيبك لم يكن ليولي منصبا كهذا لمن يعارض سياساته.

بقي أن أقول أن قطز -كما سيرد ذكره في الجزء القادم من السلسلة- كان مؤمنا بنبوءة تقول إنه سيتولى حكم مصر ويهزم التتار -والتاريخ به الكثير من النماذج لمن صدرت عنهم أعتى الممارسات عن يقين أن لهم في الحكم حقا معلوما ومسطورا في لوح القدر.

فلو تتبعنا نظرية أن قطز كان يحرك خيوط صراعات القوة والسلطة من خلف الستار، وسرنا خلف تلك الفرضية، لنظرنا للأحداث من زاوية أخرى افتراضية تتخللها بعض الحقائق الواقعة المسجلة تاريخيا.

فأولا قام قطز بمساعدة أيبك في الإطاحة بأقطاي قتلا وبأتباعه نفيا، ثم ساعد أيبك في التخلص من منافسة كبار الأمراء بقتل بعضهم واعتقال وتشريد البعض الآخر، ثم بقي كل من أيبك وشجرالدر، فاستغل الشقاق بينهما -لو استبعدنا أن تكون له يد فيه- وأغرى شجرالدر بالتخلص من أيبك وأعطاها الضمانات لانتقال هاديء للسلطة من بعده بصورة لسلطان آخر يتزوجها -ربما هو عزالدين الحلبي سالف الذكر في الجزء السابق-مما يعني استمرارها في الحكم وعدم النيل من مكانتها، وشجع أيبك على العودة للقلعة ومصالحة شجرالدر.. جدير بالذكر هنا أن خلال فترة اعتزال أيبك شجرالدر وبقائه في داره بمناظر اللوق، قام باعتقال بعض من مماليك الصالحية، فتصادف مرورهم تحت شباك تقف فيه شجر الدر خلال اقتيادهم للقلعة، فتبادلوا معها بعض الإشارات الموحية بوجود اتفاق ما بينهم موجه ضد أيبك.

جدير بالذكر كذلك أن الأمير عزالدين الحلبي قد لقي مصرعه بشكل مريب -قيل إنه سقط عن حصانه في مطاردة فمات- خلال مطاردته بعض المتمردين على قطز في عهد هذا الأخير.

ثم -ما زلنا مع الفرضية- غدر قطز بالمرأة المغرر بها وسلمها لغريمتها أم علي، بعد أن قام بتحييد المماليك الصالحية من جانب، وتشجيع المماليك المعزية على الانتقام لسيدهم من جانب آخر.. وجدير بالذكر أن بعض المؤرخين الثقات قد ذكر أن قطز هو من عمل على تسليم شجرالدر لعلي بن أيبك.

هنا لم يعد بين قطز وكرسي الحكم سوى شرعية علي بن أيبك، فولاه السلطة، ثم استغل اقتراب خطر التتار في استصدار فتوى من كبار رجال الدين -وعلى رأسهم العز بن عبدالسلام- بخلع السلطان الطفل لأنه لا يصح أن يقوم بأمر المسلمين إلا رجل بالغ عاقل قدير، فخلعوا علي بن أيبك، وحلف الأمراء لقطز سلطانا للبلاد.

وهكذا جنى قطز ثمرة سنوات من التخطيط المحكم والعمل المتقن.

……….

هل تبدو تلك النظرية منطقية؟ بالنسبة لي فإنها تبدو كذلك، لكنها لا يمكن أن تخرج عن كونها “فرضية”، فالمبدأ العام في الإثبات هو أن البينة على من ادعى، وأنا لا أملك البينة على إثبات صحة ادعائي، بالتالي لا يمكنني إخراجه من خانة الافتراض لخانة الواقع، وعلى أية حال فإن الحقيقة في التاريخ -وغيره- هي مسألة نسبية، وهو مما يعطي البحث في التاريخ متعته وثراءه.

……….

هذا عن مقتل أيبك وشجرالدر.

فماذا عن اغتيال قطز؟

(يتبع)

محتويات الموضوع