ديسمبر 1293م – مصر – نواحي البحيرة شمال الدلتا – معسكر رحلة صيد السلطان الأشرف خليل بن قلاوون
ترجّل نائب السلطنة الأمير بيدرا عن فرسه قائلًا لحسام الدين لاجين الذي كان واقفا في استقباله: “السلطان لن يرجع معنا للقلعة”
ابتسم لاجين وقد لمح عرقا نفر من الغضب أعلى صدغ بيدرا وقال: “أعطانا دستورا بالرجعة دونه؟” (دستور = إذن).
– “أجل! ورسم لي أرجع أنا بالموكب والسنجق (العلم) والتشاريف والعسكر.. صرف العساكر كلها.. أخذ معه الأمير شهاب الدين بن الأشل وذهبا للصيد.. وهو يستعجلني.. اذهب يا بيدرا.. ارحل للقاهرة يا بيدرا.. إفعل كذا وكذا يا بيدرا.. يحسب نفسه -هذا الصبي- كفؤا لي.. يتكبر على أمراء كبار تركت السيوف في أجسادهم علاماتها، بينما هو رضيع يترك علامات بوله على فراشه أو حتى ربما من قبل أن يركب أبوه على أمه! يرفض أن يُخاطب أحد بلقب “الزعيمي” ويقول: “من زعيم الجيوش غيري أنا؟”.. من فرط كبره أنه لا يوقع اسمه كاملا وإنما يكتب حرف الخاء اختصارا.. ما يكفيه الحَط عليّ منذ أيام بوشاية وزيره ابن السلعوس.. تصور هذا السوقي المأبون يتهمني بابتلاع الإقطاعات وتخزين القمح لأتطاول على السلطان.. وإيش يكون هو وسلطانه لأتطاول على أي منهما؟ هذا سلطان عِلق وهذا مرا عِلق وإيش يكون ما بين العلوق لنتطاول عليهم!”
ضحك لاجين من تلميح بيدرا وأجابه: “يا أمير.. هذا العِلق عند العوام هو فاتح عكا ومسترد حصون المسلمين في الشام من الأرمن والفرنجة.. وأخيرا.. تحدى المغُل (المغول) وقال إنه يسترد بغداد منهم! وتهتكه في تقريب ابن السلعوس لا يفيدك في طعنه عند الناس.. هو عندهم الملك المجاهد.. وتجريداته وخروجه على رأس العسكر هنا وهناك يشهدان له.. فدعنا من التشنيع عليه، فالناس ليسوا سذجا، وإن سكتوا عن قتله باعتباره أمر وكان لا يسكتون عن الخوض في عرضه”
اغتاظ بيدرا من ضحك لاجين، فقال بعصبية مضاعفة: “الناس الناس.. أف للناس.. ما يبقى إلا نخشى الزعران والغاغة والسوقة والشلاق.. ثم إيش قال بعض القدامى في الناس؟ شيء عن هي لمن غلب؟”
اقترب منهما الأمير بهادر -رأس نوبة الخدمة في بلاط السلطان- مصححا لبيدرا بهدوء: “نيلها عجب وترابها ذهب ونساؤها لعب ورجالها عبيد لمن غلب”.
– بيدرا: “آه! هذا ما أقصد! وعلى أية حال لو تكلم الناس ولم تكفنا فتوى فقهاء الشرع الشريف، فما لا يحله القول يحله السيف!”
داعب لاجين خصلة شعر شقراء نافرة من سالفه الأيمن ثم سأل: “قلت لي أنه وحده؟”
– بهادر”معه ابن الأشل”
أشاح لاجين بيده مصححا: “أعني دون عسكر أو حرس”
– بهادر”وحده تمامًا”
ركز لاجين نظره على عيني بيدرا.. تحسس بحركة لا إرادية ندبة تركها الوتر الذي رفعه خليل عن عنقه.. أغمض عينيه وفتحهما بقوة ليخرج من شروده وقال: “هي فرصتنا إذن!”
……….
عاصفة بشرية تمتطي فرسا! هكذا كان خليل بن قلاوون.. قامته العملاقة مع شاربه الكث ولحيته المشذبة وملامحه الجامعة بين الوسامة والقسوة وانتصابه على صهوة جواد ضخم ينهب الأرض مطيعا صيحات سيده المتحمسة، يرسمون لوحة لمارد أسطوري مرعب.
جاهد رفيقه الأمير شهاب الدين بن الأشل ليلحق به.. ابطأ خليل فرسه.. أوقفه والتفت له قائلا: “أنا جيعان.. معك شيء تطعمني؟”
اخرج ابن الأشل من جرابه الجلدي رغيفا ممتلئا وقال: “ما معي إلا رغيف به فروجة”
– “هاته”.. قالها وتناول الرغيف الذي استقر بعض قضمات قليلة في جوف السلطان.. مسح يده ثم قال لصديقه: “امسك فرسي حتى أنزل لأريق الماء” (يتبول)
– “ما فيها حيلة.. أنت راكب فرس وأنا راكب حجرة (أنثى الفرس).. وما يتفقان”.. (راكب الفرس الذكر يمكنه الإمساك بالفرس الأنثى وليس العكس)
– “حسنا.. تعال خلفي، وأنا انزل وأركب الحجرة، ثم أنزل عنها فيتفقان”
تبادلا الأماكن ثم نزل خليل ليقضي حاجته.. انتهى من استنجائه، ثم التفت إلى رفيقه ممسكا ذَكَره، وهو يقول: “أترى هذا؟ أتعبني معه.. لا يعطيني إلا إناثا”
ابتسم شهاب الدين الذي اعتاد جرأة مزاح سلطانه وصديقه إلى حد الفُحش البيِّن… لمح غبارا يقترب.. التفت، فالتفت معه السلطان الذي أكمل إحكام ثيابه وأمره: “اذهب وانظر هذا”.. عاد كل منهما لفرسه وانطلق شهاب الدين نحو الركب المقترب ليجد كوكبة من الأمراء على رأسهم لاجين وبيدرا وبهادر.
حاول اعتراض طريقهم صائحا: “إيش جاء بكم يا أمراء؟”، فتجاهلوه.. خيّل له أنه سمع بيدرا يهمهم من بين أسنانه: “لي شغل بالسلطان!” قبل أن يتجاوزوه.
ومن موقعه وقبل أن يفيق من ذهوله، رأى شهاب الدين كل شيء يحدث بسرعة تفوق قدرته على الاستيعاب!
……….
عندما اقتربوا منه لم يميز منهم غير بيدرا، حيث كان اللثام يخفي باقي الوجوه، بينما ينم الزي أنهم من أمرائه.. حسبهم يتوقفون ويترجّلون عن خيولهم ليبوسوا الأرض بين حافري فرسه.. شد قامته فوق فرسه كما يليق بالسلطان، وجهّز نفسه لتقريع بيدرا لتلكؤه عن الرجوع للقاهرة.. اقترابهم تجاوز حد التحية.. لمح قبضاتهم تلتف على سيوفهم.. حياه الغدر من نظراتهم فتمتم: “غير معقول!”.
الضربة الأولى كانت من سيف بيدرا، مصوبة إلى رأسه، رفع يده تلقائيا ليتقيها، بينما يبحث بالأخرى عن سلاحه، أحس ألما مريعا يمزق كفّه، وادرك متأخرا أن ما صفع وجهه كان بعض أصابعه.. سمع صوتا مألوفا: “يا نحس! من يريد السلطنة يضرب هكذا ضربة؟!”
لاجين! هذا لاجين!
واجهه لاجين، وهو يكمل حواره لبيدرا رافعا سيفه: “من يريد السلطنة يضرب هكذا”.
في اللحظة التالية، كان خليل يرمق نجوم السماء تركض بجنون، وهو يشعر بالحجارة تمزق ظهره وجسده يُسحَل من ذراعه التي بقيت قبضتها متخشبة حول اللجام المتدلي من الفرس المندفع محاولا الهرب من هذا الجنون الدموي، بينما لم يعد يربط الذراع نفسها بجسمه إلا بحبال واهية من لحم وعضلات الكتف المحلولة عن الجذع والسائل اللزج نبيذي اللون يتفجر من الفجوة المرعبة بجسده ليرسم على الأرض خطًا طويلا بعثرته سنابك خيل الأمراء وهم يلحقون بالفرس المرعوب ويوقفونه.. عاصفة من نار اجتاحت أعلى صدره حين اجتثته يد الأمير بهادر من رقدته، فاصلة جسده عن ذراعه شبه المقطوع.. بُطِح قسرا على وجهه.. لمح من زاوية رؤيته الصعبة بهادر يقبض سيفه بقوة.. وكان آخر ما أحس به هو ذلك النصل البارد الطويل الذي شق ما بين إليتيه وهو يتحول إلى عامود ملتهب يخترق دُبره وأمعاءه ممزقا كل ما في طريقه وصولا لحلقه!
لحسن حظه أنهم تأكدوا من موته قبل أن يتركوه في العراء ويذهبوا للخيمة السلطانية في المعسكر، ليحلفوا أيمان الولاء لبيدرا سلطانا للبلاد.. بلى.. فلو كانوا قد تركوه وفيه بعض الروح لأحس بضباع وذئاب الصحراء التي التهمت وجهه وأطرافه حسب وصف والي البحيرة الأمير أيدمر عندما عثر على بقايا الجثة بعد يومين ليحملها ويغسّلها ويقوم تجاه سلطانه بالواجب الأخير.
……….
القاهرة- بعدها بأيام
المحروسة تنتفض بحمى الجنون.. الناس في ذهول من مقتل سلطانهم المجاهد المحبوب.. الأمراء يتطاحنون.. زين الدين كتبغا جمع ألفا وخمسمائة من الفرسان وهاجم بيدرا ورجاله الذين تسحبوا من حوله وتركوه للأسر.. لاجين اختفى تماما رغم همسات تقول إن كتبغا يعرف مكانه ويراسله ليقنعه بالظهور مع منحه الأمان مقابل تحالفات ما على مصالح ما.. الأمير الشجاعي الذي كان خليل قد كلفه بنيابته في غيبته مع رجاله، حشد قواته على بر القاهرة ومنع المراكبية من إجازة أي إنسان عبر النيل وصولا للعاصمة.. بيدرا يتهم كتبغا أنه كان شريكا له في المخامرة على السلطان.. يقول إنه أول من عرف ووافق.. كتبغا ينفي بهدوء.. الشجاعي يُصَعِد من غضبه.. أخيرا يتفق مع كتبغا على تنصيف الأمير محمد -أخو السلطان القتيل- على أن يتولى كتبغا الوصاية عليه فهو بعد ابن تسع سنوات.. الشجاعي يهدأ.. يسحب قواته لثكناتها.. يحلفون جميعا للسلطان الطفل.. يحضرون بهادر وبيدرا.. بهادر يُذبَح لتوه.. أما بيدرا فجزاءً وفاقا.. تُقطَع كفه ثم ذراعه من الكتف -كما جرى للسلطان-يفقد أحد مماليك السلطان المغدور سيطرته على أعصابه، فينقض على نائب السلطنة الخائن ويشق بطنه بسيفه ولا يعنيه أنه قد لحظ به بعض حياة وهو ينتزع كبده ليجتث منها قطعة بأسنانه، يسيل الدم على فمه وعنقه ملوثا زيه، وهو ينظر للسماء بنشوة انتقامية رهيبة! يسارع باقي المماليك لنيل نصيبهم من الكبد الساخنة بينما يقيم بعضهم حفلة عبث بسيوفهم في بطن الخائن الفاغرة فاها.. يستمر الحفل الدامي حتى يصيب التعب مماليك خليل، فيتهاوى بعضهم جالسا حول الجثة الممزقة، بينما ينخرط البعض الآخر في بكاء هيستيري نذر كبته حتى ينال الثأر.. هكذا تهدأ القلعة.
لكن لتهدأ المحروسة المرتجفة بمَس الدم، كان لابد لها من حضرة وزار، وسرعان ما أقيما.. فنودي في الناس أن احتشدوا لتروا عقاب من يقتل أستاذه.. وشق القاهرة موكب الجمال التي حمل كل منها خشبة سُمَر عليها أحياء مجموعة من رجال بيدرا وحلفائه من الأمراء ممن اعترف بعضهم على بعض، وقد قُطِعَت يدا كل منهم بالساطور وعُلِقَت في عنقه! والمشاعلية (الجلادين) تنادي بين الناس بجريمتهم.. الرَكب يمر تحت بيت أحد المعلّقين، امرأته تقف على السطح تصرخ مقطعة شعرها وهي تلقيه عليه.. تحاول أن تقذف نفسها فوقه لكن بعض جواريها يمسكنها.. بين حين وآخر يشق أحد الممسمرين اختلاط أنين رفاقه وهمهمات الجمهور بصرخة ألم عاتية.. في مقدمة الموكب حمل رمحان رأسا بهادر وبيدرا.. استقر الرأس الأول منصوبا على باب بيت صاحبه بأمر أولي الأمر، والآخر دُفِن مع بقايا جسده.
وفي نهاية اليوم علقت جثث من أماتهم العذاب على أبواب المدينة.. أما من عاشوا، فقد خلعت عنهم المسامير وسلموا لأهلهم، ثم يعاد أخذهم في الصباح لدقهم بالمسامير في خشبة موكب العذاب ليطاف بهم، وهكذا حتى يسلمون الروح.
……….
لا يُعتَبَر بيدرا سلطانا، طالما لم يستول على القلعة كما يقول عرف المماليك.. بعد حفلة الإعدام بشهور، يظهر حسام الدين لاجين، الذي اتضح أنه كان مختبئا في المسجد المهجور -آنذاك- لأحمد بن طولون، تجري بينه وبين كتبغا مفاوضات سرية، فهذا الأخير يحتاج لبراعة لاجين الألعبان في المخامرة ونصب المعموليات.. سرعان ما ينصبان ملعوبا ويطيحان بالأمير الشجاعي ليُعدم.. ثم يخلع كتبغا السلطان الطفل ويحبسه في جناحه بالقلعة، ويتسلطن هو عوضا عنه.
ولأنه كأس دائر، فسرعان ما يتآمر لاجين على كتبغا وينقلب عليه ويستولي على الحكم، لكنه لم يعرف أنه عندما اتخذ مكانه على العرش، كان يحجز لنفسه مكانا بين المسفوكة دماءهم من سلاطين المماليك.
(يتبع)
ترجّل نائب السلطنة الأمير بيدرا عن فرسه قائلًا لحسام الدين لاجين الذي كان واقفا في استقباله: “السلطان لن يرجع معنا للقلعة”
ابتسم لاجين وقد لمح عرقا نفر من الغضب أعلى صدغ بيدرا وقال: “أعطانا دستورا بالرجعة دونه؟” (دستور = إذن).
– “أجل! ورسم لي أرجع أنا بالموكب والسنجق (العلم) والتشاريف والعسكر.. صرف العساكر كلها.. أخذ معه الأمير شهاب الدين بن الأشل وذهبا للصيد.. وهو يستعجلني.. اذهب يا بيدرا.. ارحل للقاهرة يا بيدرا.. إفعل كذا وكذا يا بيدرا.. يحسب نفسه -هذا الصبي- كفؤا لي.. يتكبر على أمراء كبار تركت السيوف في أجسادهم علاماتها، بينما هو رضيع يترك علامات بوله على فراشه أو حتى ربما من قبل أن يركب أبوه على أمه! يرفض أن يُخاطب أحد بلقب “الزعيمي” ويقول: “من زعيم الجيوش غيري أنا؟”.. من فرط كبره أنه لا يوقع اسمه كاملا وإنما يكتب حرف الخاء اختصارا.. ما يكفيه الحَط عليّ منذ أيام بوشاية وزيره ابن السلعوس.. تصور هذا السوقي المأبون يتهمني بابتلاع الإقطاعات وتخزين القمح لأتطاول على السلطان.. وإيش يكون هو وسلطانه لأتطاول على أي منهما؟ هذا سلطان عِلق وهذا مرا عِلق وإيش يكون ما بين العلوق لنتطاول عليهم!”
ضحك لاجين من تلميح بيدرا وأجابه: “يا أمير.. هذا العِلق عند العوام هو فاتح عكا ومسترد حصون المسلمين في الشام من الأرمن والفرنجة.. وأخيرا.. تحدى المغُل (المغول) وقال إنه يسترد بغداد منهم! وتهتكه في تقريب ابن السلعوس لا يفيدك في طعنه عند الناس.. هو عندهم الملك المجاهد.. وتجريداته وخروجه على رأس العسكر هنا وهناك يشهدان له.. فدعنا من التشنيع عليه، فالناس ليسوا سذجا، وإن سكتوا عن قتله باعتباره أمر وكان لا يسكتون عن الخوض في عرضه”
اغتاظ بيدرا من ضحك لاجين، فقال بعصبية مضاعفة: “الناس الناس.. أف للناس.. ما يبقى إلا نخشى الزعران والغاغة والسوقة والشلاق.. ثم إيش قال بعض القدامى في الناس؟ شيء عن هي لمن غلب؟”
اقترب منهما الأمير بهادر -رأس نوبة الخدمة في بلاط السلطان- مصححا لبيدرا بهدوء: “نيلها عجب وترابها ذهب ونساؤها لعب ورجالها عبيد لمن غلب”.
– بيدرا: “آه! هذا ما أقصد! وعلى أية حال لو تكلم الناس ولم تكفنا فتوى فقهاء الشرع الشريف، فما لا يحله القول يحله السيف!”
داعب لاجين خصلة شعر شقراء نافرة من سالفه الأيمن ثم سأل: “قلت لي أنه وحده؟”
– بهادر”معه ابن الأشل”
أشاح لاجين بيده مصححا: “أعني دون عسكر أو حرس”
– بهادر”وحده تمامًا”
ركز لاجين نظره على عيني بيدرا.. تحسس بحركة لا إرادية ندبة تركها الوتر الذي رفعه خليل عن عنقه.. أغمض عينيه وفتحهما بقوة ليخرج من شروده وقال: “هي فرصتنا إذن!”
……….
عاصفة بشرية تمتطي فرسا! هكذا كان خليل بن قلاوون.. قامته العملاقة مع شاربه الكث ولحيته المشذبة وملامحه الجامعة بين الوسامة والقسوة وانتصابه على صهوة جواد ضخم ينهب الأرض مطيعا صيحات سيده المتحمسة، يرسمون لوحة لمارد أسطوري مرعب.
جاهد رفيقه الأمير شهاب الدين بن الأشل ليلحق به.. ابطأ خليل فرسه.. أوقفه والتفت له قائلا: “أنا جيعان.. معك شيء تطعمني؟”
اخرج ابن الأشل من جرابه الجلدي رغيفا ممتلئا وقال: “ما معي إلا رغيف به فروجة”
– “هاته”.. قالها وتناول الرغيف الذي استقر بعض قضمات قليلة في جوف السلطان.. مسح يده ثم قال لصديقه: “امسك فرسي حتى أنزل لأريق الماء” (يتبول)
– “ما فيها حيلة.. أنت راكب فرس وأنا راكب حجرة (أنثى الفرس).. وما يتفقان”.. (راكب الفرس الذكر يمكنه الإمساك بالفرس الأنثى وليس العكس)
– “حسنا.. تعال خلفي، وأنا انزل وأركب الحجرة، ثم أنزل عنها فيتفقان”
تبادلا الأماكن ثم نزل خليل ليقضي حاجته.. انتهى من استنجائه، ثم التفت إلى رفيقه ممسكا ذَكَره، وهو يقول: “أترى هذا؟ أتعبني معه.. لا يعطيني إلا إناثا”
ابتسم شهاب الدين الذي اعتاد جرأة مزاح سلطانه وصديقه إلى حد الفُحش البيِّن… لمح غبارا يقترب.. التفت، فالتفت معه السلطان الذي أكمل إحكام ثيابه وأمره: “اذهب وانظر هذا”.. عاد كل منهما لفرسه وانطلق شهاب الدين نحو الركب المقترب ليجد كوكبة من الأمراء على رأسهم لاجين وبيدرا وبهادر.
حاول اعتراض طريقهم صائحا: “إيش جاء بكم يا أمراء؟”، فتجاهلوه.. خيّل له أنه سمع بيدرا يهمهم من بين أسنانه: “لي شغل بالسلطان!” قبل أن يتجاوزوه.
ومن موقعه وقبل أن يفيق من ذهوله، رأى شهاب الدين كل شيء يحدث بسرعة تفوق قدرته على الاستيعاب!
……….
عندما اقتربوا منه لم يميز منهم غير بيدرا، حيث كان اللثام يخفي باقي الوجوه، بينما ينم الزي أنهم من أمرائه.. حسبهم يتوقفون ويترجّلون عن خيولهم ليبوسوا الأرض بين حافري فرسه.. شد قامته فوق فرسه كما يليق بالسلطان، وجهّز نفسه لتقريع بيدرا لتلكؤه عن الرجوع للقاهرة.. اقترابهم تجاوز حد التحية.. لمح قبضاتهم تلتف على سيوفهم.. حياه الغدر من نظراتهم فتمتم: “غير معقول!”.
الضربة الأولى كانت من سيف بيدرا، مصوبة إلى رأسه، رفع يده تلقائيا ليتقيها، بينما يبحث بالأخرى عن سلاحه، أحس ألما مريعا يمزق كفّه، وادرك متأخرا أن ما صفع وجهه كان بعض أصابعه.. سمع صوتا مألوفا: “يا نحس! من يريد السلطنة يضرب هكذا ضربة؟!”
لاجين! هذا لاجين!
واجهه لاجين، وهو يكمل حواره لبيدرا رافعا سيفه: “من يريد السلطنة يضرب هكذا”.
في اللحظة التالية، كان خليل يرمق نجوم السماء تركض بجنون، وهو يشعر بالحجارة تمزق ظهره وجسده يُسحَل من ذراعه التي بقيت قبضتها متخشبة حول اللجام المتدلي من الفرس المندفع محاولا الهرب من هذا الجنون الدموي، بينما لم يعد يربط الذراع نفسها بجسمه إلا بحبال واهية من لحم وعضلات الكتف المحلولة عن الجذع والسائل اللزج نبيذي اللون يتفجر من الفجوة المرعبة بجسده ليرسم على الأرض خطًا طويلا بعثرته سنابك خيل الأمراء وهم يلحقون بالفرس المرعوب ويوقفونه.. عاصفة من نار اجتاحت أعلى صدره حين اجتثته يد الأمير بهادر من رقدته، فاصلة جسده عن ذراعه شبه المقطوع.. بُطِح قسرا على وجهه.. لمح من زاوية رؤيته الصعبة بهادر يقبض سيفه بقوة.. وكان آخر ما أحس به هو ذلك النصل البارد الطويل الذي شق ما بين إليتيه وهو يتحول إلى عامود ملتهب يخترق دُبره وأمعاءه ممزقا كل ما في طريقه وصولا لحلقه!
لحسن حظه أنهم تأكدوا من موته قبل أن يتركوه في العراء ويذهبوا للخيمة السلطانية في المعسكر، ليحلفوا أيمان الولاء لبيدرا سلطانا للبلاد.. بلى.. فلو كانوا قد تركوه وفيه بعض الروح لأحس بضباع وذئاب الصحراء التي التهمت وجهه وأطرافه حسب وصف والي البحيرة الأمير أيدمر عندما عثر على بقايا الجثة بعد يومين ليحملها ويغسّلها ويقوم تجاه سلطانه بالواجب الأخير.
……….
القاهرة- بعدها بأيام
المحروسة تنتفض بحمى الجنون.. الناس في ذهول من مقتل سلطانهم المجاهد المحبوب.. الأمراء يتطاحنون.. زين الدين كتبغا جمع ألفا وخمسمائة من الفرسان وهاجم بيدرا ورجاله الذين تسحبوا من حوله وتركوه للأسر.. لاجين اختفى تماما رغم همسات تقول إن كتبغا يعرف مكانه ويراسله ليقنعه بالظهور مع منحه الأمان مقابل تحالفات ما على مصالح ما.. الأمير الشجاعي الذي كان خليل قد كلفه بنيابته في غيبته مع رجاله، حشد قواته على بر القاهرة ومنع المراكبية من إجازة أي إنسان عبر النيل وصولا للعاصمة.. بيدرا يتهم كتبغا أنه كان شريكا له في المخامرة على السلطان.. يقول إنه أول من عرف ووافق.. كتبغا ينفي بهدوء.. الشجاعي يُصَعِد من غضبه.. أخيرا يتفق مع كتبغا على تنصيف الأمير محمد -أخو السلطان القتيل- على أن يتولى كتبغا الوصاية عليه فهو بعد ابن تسع سنوات.. الشجاعي يهدأ.. يسحب قواته لثكناتها.. يحلفون جميعا للسلطان الطفل.. يحضرون بهادر وبيدرا.. بهادر يُذبَح لتوه.. أما بيدرا فجزاءً وفاقا.. تُقطَع كفه ثم ذراعه من الكتف -كما جرى للسلطان-يفقد أحد مماليك السلطان المغدور سيطرته على أعصابه، فينقض على نائب السلطنة الخائن ويشق بطنه بسيفه ولا يعنيه أنه قد لحظ به بعض حياة وهو ينتزع كبده ليجتث منها قطعة بأسنانه، يسيل الدم على فمه وعنقه ملوثا زيه، وهو ينظر للسماء بنشوة انتقامية رهيبة! يسارع باقي المماليك لنيل نصيبهم من الكبد الساخنة بينما يقيم بعضهم حفلة عبث بسيوفهم في بطن الخائن الفاغرة فاها.. يستمر الحفل الدامي حتى يصيب التعب مماليك خليل، فيتهاوى بعضهم جالسا حول الجثة الممزقة، بينما ينخرط البعض الآخر في بكاء هيستيري نذر كبته حتى ينال الثأر.. هكذا تهدأ القلعة.
لكن لتهدأ المحروسة المرتجفة بمَس الدم، كان لابد لها من حضرة وزار، وسرعان ما أقيما.. فنودي في الناس أن احتشدوا لتروا عقاب من يقتل أستاذه.. وشق القاهرة موكب الجمال التي حمل كل منها خشبة سُمَر عليها أحياء مجموعة من رجال بيدرا وحلفائه من الأمراء ممن اعترف بعضهم على بعض، وقد قُطِعَت يدا كل منهم بالساطور وعُلِقَت في عنقه! والمشاعلية (الجلادين) تنادي بين الناس بجريمتهم.. الرَكب يمر تحت بيت أحد المعلّقين، امرأته تقف على السطح تصرخ مقطعة شعرها وهي تلقيه عليه.. تحاول أن تقذف نفسها فوقه لكن بعض جواريها يمسكنها.. بين حين وآخر يشق أحد الممسمرين اختلاط أنين رفاقه وهمهمات الجمهور بصرخة ألم عاتية.. في مقدمة الموكب حمل رمحان رأسا بهادر وبيدرا.. استقر الرأس الأول منصوبا على باب بيت صاحبه بأمر أولي الأمر، والآخر دُفِن مع بقايا جسده.
وفي نهاية اليوم علقت جثث من أماتهم العذاب على أبواب المدينة.. أما من عاشوا، فقد خلعت عنهم المسامير وسلموا لأهلهم، ثم يعاد أخذهم في الصباح لدقهم بالمسامير في خشبة موكب العذاب ليطاف بهم، وهكذا حتى يسلمون الروح.
……….
لا يُعتَبَر بيدرا سلطانا، طالما لم يستول على القلعة كما يقول عرف المماليك.. بعد حفلة الإعدام بشهور، يظهر حسام الدين لاجين، الذي اتضح أنه كان مختبئا في المسجد المهجور -آنذاك- لأحمد بن طولون، تجري بينه وبين كتبغا مفاوضات سرية، فهذا الأخير يحتاج لبراعة لاجين الألعبان في المخامرة ونصب المعموليات.. سرعان ما ينصبان ملعوبا ويطيحان بالأمير الشجاعي ليُعدم.. ثم يخلع كتبغا السلطان الطفل ويحبسه في جناحه بالقلعة، ويتسلطن هو عوضا عنه.
ولأنه كأس دائر، فسرعان ما يتآمر لاجين على كتبغا وينقلب عليه ويستولي على الحكم، لكنه لم يعرف أنه عندما اتخذ مكانه على العرش، كان يحجز لنفسه مكانا بين المسفوكة دماءهم من سلاطين المماليك.
(يتبع)