رودة عاتية اجتاحت السلطان الملقى في بركة من الدم.. آلام الجسد المثخن بالطعنات، المخترق برؤوس السهام تنسحب لتحل محلها سكينة عجيبة.. تتوارى موجودات الدنيا رويدا مفسحة المجال لموجودات الغيب.
آخر نصيبه من المرئيات الأرضية كان وجوها أحاطته ترمق بقايا الحياة تغادر وجهه المتعرق.. ميز ملامح كل من أنص الأصبهاني، بيدغان الركني، بهادر المعزي، بلبان الرشيدي، بينما غطت ضبابة كثيفة باقي مجال البصر، فلم يميز باقي وجوه رفاقه/قتلته.. اخترق الضباب وجه صارم الملامح، انسدلت خصلة من شعره الأشقر فغطت إحدى عينيه الزرقاوتين.. انحنى الوجه حتى صافحت أنفاسه الحارة الأنفاس المحتضرة.. انكشف عنه غطاؤه، فميز بصره الحديد ارتجافة على زاوية الفم المزموم بعنف ودمعة شابت زرقة عين متأملة.. تمتم بآخر قواه الذاوية “بيبرس”.. جثا بيبرس على ركبتيه ومد يدا يتناقض حنانها مع صرامة سيفه الذي هوى على عاتق ضحيته قبل لحيظات.
“قطز” تمتم بيبرس بدوره مستخدما لغتهما التركية التي لم يعد يستخدمها منذ زمن ليس بالقليل..”انتهى الأمر.. استرح.. نم…انتهى الأمر يا صديقي.. هنا تنتهي الرحلة وينقضي الدين القديم وتذهب العداوات”
حاول الرد بغمغمات.. خانه لسانه عنها، فخرجت مختلطة مبهمة.. تدفق الدم من بين شفتيه ومن وعيه المحتضر تدفقت الذكريات.
……….
لا يذكر ماذا كان خطأه الذي جعل سيده الدمشقي القديم يحتد عليه فيصفعه ويسبه ويسب آباءه وأجداده، فليست القسوة من صفات سيده.. انزوى في غرفته يبكي عازفا عن الطعام ومخالطة الآخرين.. آه من ذل من كان عزيز قومه.. أباه وجده من كان عظماء دولتهما يسعون لنيل شرف تقبيل أعتابهما قبل أن تغدر بهما الأيام فيزول ملكهما ويموتان شريدين ذليلين، وتطّوح الأيام عزتهما حتى يأتي يوما يسبهما فيه رجل عامي.
طرقات رفيقة على باب غرفته ثم الحاج علي الفراش -صديق سيده- يدلف إلى الغرفة.. انتزع نفسه من مجلسه وأسرع يقبل يد الرجل الذي يجله أهل دمشق.. أجلسه هذا واتخذ جلسة متوددة بجواره.. تأمل عينيه المحمرتين كالدم، ثم قال: “إيش هذا البكاء؟ من لطشة تفعل كل هذا؟ إيش تعمل إذن لو وقعت فيك ضربة سيف أو نشابة؟!”
تردد برهة وبقايا صوت أمه وهي تهدهده في فراشه بأغنية حانية تعبث بذاكرته.. أخيرا استجمع أنفاسه وتحدث: “والله يا عم ما أبكي من لطشة.. ولا السيوف تعمل في هذا.. لكني أبكي لعن سيدي أبي وجدي” تردد ثانية وأردف “وهما خير من أباه وجده”.
الحاج علي لم يعتد مثل تلك الوقاحة من المملوك الشاب.. كظم غيظه وأجاب: “قطز.. أنت كبعض ولدي.. لكن.. يا صغيري.. وإيش يكون أبوك وجدك؟ هما كافر ابن كافر، فالأدب يا صغيري.. لا ينسيك غضبك حسن الأدب”
أحس الحاج بتلك الرعدة التي سرت كتف المملوك المستكينة تحت كفه العجوز.. رفع قطز عينيه وثبتهما في عيني محدثه قائلا: “لا تقل كذا يا شيخ! فوالله ما أنا إلا مسلم بن مسلم إلى عشرة جدود!”، ازدادت نظراته حدة وقد برزت عروق عنقه كمن يحمل عن صدره أثقالا: “أنا محمود بن ممدود.. ابن أخت خوارزم شاه.. ولابد ما أملك مصر وأكسر التتار!”
……….
“قال الحاج علي: فضحكت من قوله وطايبته، وتقلبت الأحوال إلى أن ملك مصر وكسر التتار، ودخل قطز دمشق وطلبني.. فأحضرني وأعطاني خمسمائة دينار، ورتب لي راتبا جيدا، رحمه الله”
الدرة الزكية في أخبار الدولة التركية – أيبك الدوادار
……….
لم يعد ذلك المملوك المنكسر بقرب العهد بعز أعقبه ذل.. تكورت عضلات ساعديه وأكسبته تدريبات الفروسية والقتال جسدا ممشوقا.. تناقلته الأيدي حتى استقر -مؤقتا- عند الأمير الهيجاوي أحد أمراء دولة بني أيوب بمصر.
جلس في يوم حار مسلما رأسه لزميله حسام الدين البركة يسرح شعره ويفليه مما علق به من قمل نتيجة أيام من التدريب البالغة مشقته وكثافته حد أنهم لم يجدوا وقتا للنظافة والاستحمام.
قطع خشداشه (زميله في طباق المماليك) الصمت قائلا بلهجة حالمة: “تعرف يا قطز.. والله ما أشتهي إلا إمرة خمسين فارس”
ابتسم مجيبا بثقة: “طيب خاطرك.. أنا أملك الديار المصرية وأكسر التتار وأعطيك إمرة خمسين فارس”
انتقلت يد الزميل من رأسه لقفاه في صفعة ودودة قائلا بتهكم: “انت تملك الديار المصرية وتكسر التتار بقملك هذا؟”
اتسعت الابتسامة “وإلك علة؟ إيش يلزمك أكثر من إمرة خمسين فارس؟”
ثم التفت للخشداش وأكمل: “لابد لي من هذا.. رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرني أني أملك مصر وأكسر التتار”
……….
قال حسام الدين البركة “فسكت وكنت أعرف منه الصدق في حديثه وعدم الكذب”
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة – ابن تغري بردي
……….
تتثاقل أنفاسه.. إعصار من الوجوه يضرب نطاق بصره.. تتبدل بسرعة مذهلة لكنه لا يغفل منها وجها.. أخيرا تتباطأ حركتها ثم يزيحها وجه بعينه.. أقطاي….
……….
ألصق ظهره بجدار الدهليز وقد تصلبت أصابعه حول مقبض سيفه.. ندت همهمة عن بعض مرافقيه المتخذون مواقعهم، فأسكتها بإشارة من يده.. تراقصت جذوات المشاعل في أول الممر واشية باقتراب الهدف.. كعادة فارس الدين أقطاي، فإنه إذا مشى اشتد في مشيته فيشارك خطوه السريع بنيته العملاقة في إثارة عاصفة مختصرة حوله.. أشار قطز مجددا لرفاقه أن استعدوا.. فعلى الأمر أن يتم بسرعة.
كيف كانت لحظة المواجهة؟ لا يتذكر أية تفاصيل.. لا نظرات مواجهة ولا كلمات أخيرة.. فقط يتذكر جيدا تلك اللحظة التي أمسك فيها رأس أقطاي وطوحها بكل قوته نحو سبعمائة من فرسان هذا الأخير احتشدوا حول قلعة الجبل ظنا منهم أن أيبك اكتفى باعتقاله وأنهم مخلصوه.
يذكر صرخة غضب عاتية من بيبرس، صديق وتلميذ أقطاي، نظرته الواعدة بالويل.. عضلات فكه المتراقصة في شبق للانتقام.
يذكر أيضا قطرة من دم الرأس المقطوع خالفت اتجاه تطويحته وصفعته على جانب عنقه.. بقي بعدها أياما يحس ألما في موضع الصفعة كأن كفا غاضبة هوت عليه.. ومن حين لآخر كان يزوره نفس الألم.. في المكان ذاته الذي استقرت فوقه قطرة الدم.. نفس الموضع الذي بعد ذلك اليوم بسنوات هوت عليه أولى ضربات سيوف قتلته.
……….
“كنا عند سيف الدين قطز لما تسلطن أستاذه المعز أيبك التركماني، فأمرنا قطز بالقعود، ثم أمر المنجم بضرب الرمل، ثم قال له اضرب لمن يملك بعد أستاذي المعز أيبك، ومن يكسر التتار، فضرب وبقي زمنا يحسب، فقال: يطلع معي خمسة حروف بلا نقط، فقال له قطز: لم لا تقول محمود بن ممدود، فقال: يا خوند لا ينفع غير هذا الاسم، فقال: أنا هو، أنا محمود بن ممدود، وأنا أكسر التتار وآخذ بثأر خالي خوارزم شاه، فتعجبنا من كلامه وقلنا يا خوند يكون هذا إن شاء الله. فقال: اكتموا ذلك، وأعطى المنجم ثلاثمائة درهم”
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة – ابن تغري بردي
……….
تحسس كلماته قبل أن ينطقها وقد أخذ يرمق بطرف عينه وجه شيخ الإسلام العز بن عبدالسلام.. لا يخشى سوى هذا الرجل الصلب الذي يصعب أن تفرض عليه أمرا لا يقنعه.. وهو من هو مكانة وشعبية بين الناس.
كان الشيخ يجلس في صدارة المجلس المجتمع في عجالة لمناقشة الخطر المغولي المقترب من حدود الديار المصرية.. ناقشوا أولا تمويل الجيش، وأدار قطز النقاش باعتباره نائبا عن السلطان الطفل علي بن أيبك كما كان من قبل نائبا لأبيه.. بقيت مناقشة الخطوة الأكثر حساسية.. يجب أن يحسن تصويب هذه الرمية وإلا فسد كل أمر دبره.
أخيرا قال العبارة التي تدرب مرارا بينه وبين نفسه على إلقائها “لابد من سلطان قاهر يقاتل هذا العدو، والملك الصبي صغير لا يحسن تدبير المملكة.. فانظروا ماذا ترون.”
ألقاها واستجمع قواه كيلا تفضحه أنفاسه.. يجول ببصره في وجوه الحضور.. هم يدركون ما يرمي إليه، وهو يدرك أنهم يدركون، فقط الشكليات فرضت عليهم جميعا التظاهر بمناقشة أمر يعلمون أنه محسوم منذ أزاح الموت كل من أقطاي وأيبك وشجر الدر، وغيب النفي -مؤقتا-بيبرس وقلاوون.. وأن هذا الجالس أمامهم كان قد شارك السلطان السابق أيبك القضاء على مراكز القوى المملوكية المنافسة قتلا ونفيا واعتقالا، فلم يعد للبيت المملوكي من كبير سوى ذلك الأمير الشاب قطز الممتطي طموحه في ظل نبوءة سعده.
……….
“فلما تم أمره في السلطنة، عمل الموكب في القلعة، فلما طلع الأمراء إلى القلعة قبض على جماعة من أعيان خشداشيته المعزية، وقيدهم وأرسلهم إلى السجن بثغر دمياط والإسكندرية”
بدائع الزهور في وقائع الدهور- ابن إياس
……….
شدته أوتاد الوهن إلى الأرض بقوة جبارة، اجتاح صدره شعور الغرق، وقد اختلطت أنفاسه الأخيرة بالدم المندفع من جوفه إلى فمه.. حاول عبثا أن يبصق السائل الثقيل.. ارتسمت في مخيلته ابتسامة ساخرة من نفسه.. سلطان مصر والشام.. كاسر جيش المغول.. يعجز عن مجرد بصقة.
انتابته ذكرى النبوءة، نصفها الأول الملوث بالدم، نصفها الذي يخشاه فيما هو مقبل عليه.. ونصفها الآخر المكلل بالمجد.. هو ذلك النصف الذي يرجو لقاء ربه به.
……….
عاصفة الغبار تحجب المرئيات.. معزوفة مرعبة من تقارع الأنصال الحادة وأصوات مصافحتها القاتلة للرؤوس والضلوع… أمواج من اللحم والعضلات والحديد تتصادم كعملاقين عاتيين، ثم ترتد مخلفة حطاما من البشر والدروع.. في السماء مظاهرة من الجوارح آكلة الجيف تنتظر وليمة تعد لها على أرض عين جالوت.. تطأ سنابك فرسه صفوفا من جثث المغول، فيدرك أن أشاوس المسلمين قد أزاحتهم عن مواقعهم.. سخونة حماسية اجتاحته، فألقى خوذته عن رأسه صارخا: “وا إسلاماه! يا الله انصر عبدك قطز على التتار!”.. سهم أصاب عنق فرسه، فقفز عن ظهره قبل أن يهوى به، وبقي يقاتل على رجليه حتى أتاه أحد رجاله بفرس آخر.. غاب عما حوله، فلم يعد يدرك سوى ذراعه وهي تهوي بالسيف على رؤوس جند المغول.. كالمحموم يندفع ويضرب بقوة عاتية حتى أفاق على أصوات تكبيرات الجند وهم يطاردون فلول العدو المنسحب.. يهبط عن فرسه ويصافح بوجهه التراب في سجدة شكر طويلة.
……….
ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، فإن كان قد حقق الشطر الآخر من النبوءة، فإن شطرها الأول -ملكه- قد بدأت تراوده بوادر الاضطراب، فهو لا يستطيع أن ينام منذ بلغته تلك الوشاية أن بيبرس ورفاقه يخامرون عليه ويعدون له أمرا.. بيبرس مجددا.. هل هو غضبه أن السلطان قد رجع عن وعده له بولاية حلب؟ وهل اعتقد بيبرس حقا أن قطز يعطيه حلب، وهي الباب الذي إن ملكته ملكت مداخل الشام ثم مصر؟ هل هو الثأر القديم لصديقه أقطاي؟ لماذا لا ينسى؟ ألم أنس له أنه خلال منفاه كان يحرض أمراء بني أيوب بالشام على غزو مصر؟ ألم نتعاهد على نسيان مرارات الماضي؟ لماذا يحملني على أن يكون لي معه شأنا لا أحب أن أضطر إليه؟ كيف التدبير؟
……….
22 أكتوبر 1257م
الصالحية.. على مشارف مصر.. طريق عودة الجيش المملوكي.
“كانت رحلة صيد موقفة.. وفق الله سهم مولانا”
قالها قلاوون لقطز.. إلا أن هذا الأخير لم يسمعه وهو يتأمل بيبرس بطرف عينه، فمنذ بلغت تلك الوشاية أذن السلطان، حرص أن يجعل بيبرس أمام عينيه دوما، فألزمه مرافقته في كل حين في صورة المقرب منه.. إن لم يكن في ذلك تطييبا لنفسه، فليكن من باب تقريب الخصم وعدم تركه يغفل لحظة عن نطاق الحذر.. هل هذا ما دفعه للخروج معه ورفاقه منفردين لصيد الأرانب البرية؟ ربما.
قطع بلبان الرشيدي الصمت مقتربا بفرسه من فرس السلطان “مولانا يعلم حسن بلاء خادمه بيبرس” أفاق قطز من شروده ونظر لحظة لبلبان ثم أجاب “بلى.. لا ينكر ذلك إلا جاحد”.. تبادل محدثه نظرة سريعة مع بيبرس وقال: “فحسن ظننا بمولانا السلطان ألا يغفل عن مكافأة حسن بلائه بما هو أهل له”
عم يتحدث هذا الثرثار؟ قالها بينه وبين نفسه وهو يجيب بلبان: “بيبرس لا يقدر أحدا يوفيه حقه.. وهو عندنا في أكرم مكان”
ترجل بيبرس عن فرسه مقتربا من السلطان، أمسك يده وأحنى رأسه طابعا عليها قبلة، ثم وضعها على عينيه.. استقبل قطز الأمر ببساطة، فهذا أمر اعتادته الآداب المملوكية.. انتظر أن يترك بيبرس يده، إلا أن هذا الأخير بقي قابضا عليها بقوة زائدة.. نظر قطز إليه، رفع بصره للأمراء، فوجدهم قد قبضوا سيوفهم، أعاد النظر مباشرة لعيني بيبرس.. ثم ارتسمت على شفتيه شبح ابتسامة.. هل هي ابتسامة إعجاب باللعبة الذكية لخصمه؟ أم هي ابتسامة هازئة بذلك الذي سار وراء نبوءة ناقصة غفل عن أن يسأل نفسه أين تذهب به وإلى ما تنتهي؟
الله أعلم.
……….
القاهرة التي كانت قد تزينت استعدادا لاستقبال السلطان قطز، استيقظت على المنادي بالترحم عليه والدعاء للسلطان القاهر ركن الدين بيبرس، ولأن لقب “القاهر” كان شؤما على من حملوه سابقا من الملوك، فقد غير بيبرس لقبه ليصبح “الظاهر”.
ولأن قاعدة “مات الملك.. عاش الملك” قرينة قاعدة “الحكم لمن غلب”، فسرعان ما انقضت أيام قطز كأن لم تكن، لتستقبل قلعة الجبل سيدا جديدا، وحلقة جديدة في السلسلة المملوكية المراد لها الاستمرار حتى يقضي الله أمرا كان معلوما.
(يتبع)
آخر نصيبه من المرئيات الأرضية كان وجوها أحاطته ترمق بقايا الحياة تغادر وجهه المتعرق.. ميز ملامح كل من أنص الأصبهاني، بيدغان الركني، بهادر المعزي، بلبان الرشيدي، بينما غطت ضبابة كثيفة باقي مجال البصر، فلم يميز باقي وجوه رفاقه/قتلته.. اخترق الضباب وجه صارم الملامح، انسدلت خصلة من شعره الأشقر فغطت إحدى عينيه الزرقاوتين.. انحنى الوجه حتى صافحت أنفاسه الحارة الأنفاس المحتضرة.. انكشف عنه غطاؤه، فميز بصره الحديد ارتجافة على زاوية الفم المزموم بعنف ودمعة شابت زرقة عين متأملة.. تمتم بآخر قواه الذاوية “بيبرس”.. جثا بيبرس على ركبتيه ومد يدا يتناقض حنانها مع صرامة سيفه الذي هوى على عاتق ضحيته قبل لحيظات.
“قطز” تمتم بيبرس بدوره مستخدما لغتهما التركية التي لم يعد يستخدمها منذ زمن ليس بالقليل..”انتهى الأمر.. استرح.. نم…انتهى الأمر يا صديقي.. هنا تنتهي الرحلة وينقضي الدين القديم وتذهب العداوات”
حاول الرد بغمغمات.. خانه لسانه عنها، فخرجت مختلطة مبهمة.. تدفق الدم من بين شفتيه ومن وعيه المحتضر تدفقت الذكريات.
……….
لا يذكر ماذا كان خطأه الذي جعل سيده الدمشقي القديم يحتد عليه فيصفعه ويسبه ويسب آباءه وأجداده، فليست القسوة من صفات سيده.. انزوى في غرفته يبكي عازفا عن الطعام ومخالطة الآخرين.. آه من ذل من كان عزيز قومه.. أباه وجده من كان عظماء دولتهما يسعون لنيل شرف تقبيل أعتابهما قبل أن تغدر بهما الأيام فيزول ملكهما ويموتان شريدين ذليلين، وتطّوح الأيام عزتهما حتى يأتي يوما يسبهما فيه رجل عامي.
طرقات رفيقة على باب غرفته ثم الحاج علي الفراش -صديق سيده- يدلف إلى الغرفة.. انتزع نفسه من مجلسه وأسرع يقبل يد الرجل الذي يجله أهل دمشق.. أجلسه هذا واتخذ جلسة متوددة بجواره.. تأمل عينيه المحمرتين كالدم، ثم قال: “إيش هذا البكاء؟ من لطشة تفعل كل هذا؟ إيش تعمل إذن لو وقعت فيك ضربة سيف أو نشابة؟!”
تردد برهة وبقايا صوت أمه وهي تهدهده في فراشه بأغنية حانية تعبث بذاكرته.. أخيرا استجمع أنفاسه وتحدث: “والله يا عم ما أبكي من لطشة.. ولا السيوف تعمل في هذا.. لكني أبكي لعن سيدي أبي وجدي” تردد ثانية وأردف “وهما خير من أباه وجده”.
الحاج علي لم يعتد مثل تلك الوقاحة من المملوك الشاب.. كظم غيظه وأجاب: “قطز.. أنت كبعض ولدي.. لكن.. يا صغيري.. وإيش يكون أبوك وجدك؟ هما كافر ابن كافر، فالأدب يا صغيري.. لا ينسيك غضبك حسن الأدب”
أحس الحاج بتلك الرعدة التي سرت كتف المملوك المستكينة تحت كفه العجوز.. رفع قطز عينيه وثبتهما في عيني محدثه قائلا: “لا تقل كذا يا شيخ! فوالله ما أنا إلا مسلم بن مسلم إلى عشرة جدود!”، ازدادت نظراته حدة وقد برزت عروق عنقه كمن يحمل عن صدره أثقالا: “أنا محمود بن ممدود.. ابن أخت خوارزم شاه.. ولابد ما أملك مصر وأكسر التتار!”
……….
“قال الحاج علي: فضحكت من قوله وطايبته، وتقلبت الأحوال إلى أن ملك مصر وكسر التتار، ودخل قطز دمشق وطلبني.. فأحضرني وأعطاني خمسمائة دينار، ورتب لي راتبا جيدا، رحمه الله”
الدرة الزكية في أخبار الدولة التركية – أيبك الدوادار
……….
لم يعد ذلك المملوك المنكسر بقرب العهد بعز أعقبه ذل.. تكورت عضلات ساعديه وأكسبته تدريبات الفروسية والقتال جسدا ممشوقا.. تناقلته الأيدي حتى استقر -مؤقتا- عند الأمير الهيجاوي أحد أمراء دولة بني أيوب بمصر.
جلس في يوم حار مسلما رأسه لزميله حسام الدين البركة يسرح شعره ويفليه مما علق به من قمل نتيجة أيام من التدريب البالغة مشقته وكثافته حد أنهم لم يجدوا وقتا للنظافة والاستحمام.
قطع خشداشه (زميله في طباق المماليك) الصمت قائلا بلهجة حالمة: “تعرف يا قطز.. والله ما أشتهي إلا إمرة خمسين فارس”
ابتسم مجيبا بثقة: “طيب خاطرك.. أنا أملك الديار المصرية وأكسر التتار وأعطيك إمرة خمسين فارس”
انتقلت يد الزميل من رأسه لقفاه في صفعة ودودة قائلا بتهكم: “انت تملك الديار المصرية وتكسر التتار بقملك هذا؟”
اتسعت الابتسامة “وإلك علة؟ إيش يلزمك أكثر من إمرة خمسين فارس؟”
ثم التفت للخشداش وأكمل: “لابد لي من هذا.. رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرني أني أملك مصر وأكسر التتار”
……….
قال حسام الدين البركة “فسكت وكنت أعرف منه الصدق في حديثه وعدم الكذب”
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة – ابن تغري بردي
……….
تتثاقل أنفاسه.. إعصار من الوجوه يضرب نطاق بصره.. تتبدل بسرعة مذهلة لكنه لا يغفل منها وجها.. أخيرا تتباطأ حركتها ثم يزيحها وجه بعينه.. أقطاي….
……….
ألصق ظهره بجدار الدهليز وقد تصلبت أصابعه حول مقبض سيفه.. ندت همهمة عن بعض مرافقيه المتخذون مواقعهم، فأسكتها بإشارة من يده.. تراقصت جذوات المشاعل في أول الممر واشية باقتراب الهدف.. كعادة فارس الدين أقطاي، فإنه إذا مشى اشتد في مشيته فيشارك خطوه السريع بنيته العملاقة في إثارة عاصفة مختصرة حوله.. أشار قطز مجددا لرفاقه أن استعدوا.. فعلى الأمر أن يتم بسرعة.
كيف كانت لحظة المواجهة؟ لا يتذكر أية تفاصيل.. لا نظرات مواجهة ولا كلمات أخيرة.. فقط يتذكر جيدا تلك اللحظة التي أمسك فيها رأس أقطاي وطوحها بكل قوته نحو سبعمائة من فرسان هذا الأخير احتشدوا حول قلعة الجبل ظنا منهم أن أيبك اكتفى باعتقاله وأنهم مخلصوه.
يذكر صرخة غضب عاتية من بيبرس، صديق وتلميذ أقطاي، نظرته الواعدة بالويل.. عضلات فكه المتراقصة في شبق للانتقام.
يذكر أيضا قطرة من دم الرأس المقطوع خالفت اتجاه تطويحته وصفعته على جانب عنقه.. بقي بعدها أياما يحس ألما في موضع الصفعة كأن كفا غاضبة هوت عليه.. ومن حين لآخر كان يزوره نفس الألم.. في المكان ذاته الذي استقرت فوقه قطرة الدم.. نفس الموضع الذي بعد ذلك اليوم بسنوات هوت عليه أولى ضربات سيوف قتلته.
……….
“كنا عند سيف الدين قطز لما تسلطن أستاذه المعز أيبك التركماني، فأمرنا قطز بالقعود، ثم أمر المنجم بضرب الرمل، ثم قال له اضرب لمن يملك بعد أستاذي المعز أيبك، ومن يكسر التتار، فضرب وبقي زمنا يحسب، فقال: يطلع معي خمسة حروف بلا نقط، فقال له قطز: لم لا تقول محمود بن ممدود، فقال: يا خوند لا ينفع غير هذا الاسم، فقال: أنا هو، أنا محمود بن ممدود، وأنا أكسر التتار وآخذ بثأر خالي خوارزم شاه، فتعجبنا من كلامه وقلنا يا خوند يكون هذا إن شاء الله. فقال: اكتموا ذلك، وأعطى المنجم ثلاثمائة درهم”
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة – ابن تغري بردي
……….
تحسس كلماته قبل أن ينطقها وقد أخذ يرمق بطرف عينه وجه شيخ الإسلام العز بن عبدالسلام.. لا يخشى سوى هذا الرجل الصلب الذي يصعب أن تفرض عليه أمرا لا يقنعه.. وهو من هو مكانة وشعبية بين الناس.
كان الشيخ يجلس في صدارة المجلس المجتمع في عجالة لمناقشة الخطر المغولي المقترب من حدود الديار المصرية.. ناقشوا أولا تمويل الجيش، وأدار قطز النقاش باعتباره نائبا عن السلطان الطفل علي بن أيبك كما كان من قبل نائبا لأبيه.. بقيت مناقشة الخطوة الأكثر حساسية.. يجب أن يحسن تصويب هذه الرمية وإلا فسد كل أمر دبره.
أخيرا قال العبارة التي تدرب مرارا بينه وبين نفسه على إلقائها “لابد من سلطان قاهر يقاتل هذا العدو، والملك الصبي صغير لا يحسن تدبير المملكة.. فانظروا ماذا ترون.”
ألقاها واستجمع قواه كيلا تفضحه أنفاسه.. يجول ببصره في وجوه الحضور.. هم يدركون ما يرمي إليه، وهو يدرك أنهم يدركون، فقط الشكليات فرضت عليهم جميعا التظاهر بمناقشة أمر يعلمون أنه محسوم منذ أزاح الموت كل من أقطاي وأيبك وشجر الدر، وغيب النفي -مؤقتا-بيبرس وقلاوون.. وأن هذا الجالس أمامهم كان قد شارك السلطان السابق أيبك القضاء على مراكز القوى المملوكية المنافسة قتلا ونفيا واعتقالا، فلم يعد للبيت المملوكي من كبير سوى ذلك الأمير الشاب قطز الممتطي طموحه في ظل نبوءة سعده.
……….
“فلما تم أمره في السلطنة، عمل الموكب في القلعة، فلما طلع الأمراء إلى القلعة قبض على جماعة من أعيان خشداشيته المعزية، وقيدهم وأرسلهم إلى السجن بثغر دمياط والإسكندرية”
بدائع الزهور في وقائع الدهور- ابن إياس
……….
شدته أوتاد الوهن إلى الأرض بقوة جبارة، اجتاح صدره شعور الغرق، وقد اختلطت أنفاسه الأخيرة بالدم المندفع من جوفه إلى فمه.. حاول عبثا أن يبصق السائل الثقيل.. ارتسمت في مخيلته ابتسامة ساخرة من نفسه.. سلطان مصر والشام.. كاسر جيش المغول.. يعجز عن مجرد بصقة.
انتابته ذكرى النبوءة، نصفها الأول الملوث بالدم، نصفها الذي يخشاه فيما هو مقبل عليه.. ونصفها الآخر المكلل بالمجد.. هو ذلك النصف الذي يرجو لقاء ربه به.
……….
عاصفة الغبار تحجب المرئيات.. معزوفة مرعبة من تقارع الأنصال الحادة وأصوات مصافحتها القاتلة للرؤوس والضلوع… أمواج من اللحم والعضلات والحديد تتصادم كعملاقين عاتيين، ثم ترتد مخلفة حطاما من البشر والدروع.. في السماء مظاهرة من الجوارح آكلة الجيف تنتظر وليمة تعد لها على أرض عين جالوت.. تطأ سنابك فرسه صفوفا من جثث المغول، فيدرك أن أشاوس المسلمين قد أزاحتهم عن مواقعهم.. سخونة حماسية اجتاحته، فألقى خوذته عن رأسه صارخا: “وا إسلاماه! يا الله انصر عبدك قطز على التتار!”.. سهم أصاب عنق فرسه، فقفز عن ظهره قبل أن يهوى به، وبقي يقاتل على رجليه حتى أتاه أحد رجاله بفرس آخر.. غاب عما حوله، فلم يعد يدرك سوى ذراعه وهي تهوي بالسيف على رؤوس جند المغول.. كالمحموم يندفع ويضرب بقوة عاتية حتى أفاق على أصوات تكبيرات الجند وهم يطاردون فلول العدو المنسحب.. يهبط عن فرسه ويصافح بوجهه التراب في سجدة شكر طويلة.
……….
ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، فإن كان قد حقق الشطر الآخر من النبوءة، فإن شطرها الأول -ملكه- قد بدأت تراوده بوادر الاضطراب، فهو لا يستطيع أن ينام منذ بلغته تلك الوشاية أن بيبرس ورفاقه يخامرون عليه ويعدون له أمرا.. بيبرس مجددا.. هل هو غضبه أن السلطان قد رجع عن وعده له بولاية حلب؟ وهل اعتقد بيبرس حقا أن قطز يعطيه حلب، وهي الباب الذي إن ملكته ملكت مداخل الشام ثم مصر؟ هل هو الثأر القديم لصديقه أقطاي؟ لماذا لا ينسى؟ ألم أنس له أنه خلال منفاه كان يحرض أمراء بني أيوب بالشام على غزو مصر؟ ألم نتعاهد على نسيان مرارات الماضي؟ لماذا يحملني على أن يكون لي معه شأنا لا أحب أن أضطر إليه؟ كيف التدبير؟
……….
22 أكتوبر 1257م
الصالحية.. على مشارف مصر.. طريق عودة الجيش المملوكي.
“كانت رحلة صيد موقفة.. وفق الله سهم مولانا”
قالها قلاوون لقطز.. إلا أن هذا الأخير لم يسمعه وهو يتأمل بيبرس بطرف عينه، فمنذ بلغت تلك الوشاية أذن السلطان، حرص أن يجعل بيبرس أمام عينيه دوما، فألزمه مرافقته في كل حين في صورة المقرب منه.. إن لم يكن في ذلك تطييبا لنفسه، فليكن من باب تقريب الخصم وعدم تركه يغفل لحظة عن نطاق الحذر.. هل هذا ما دفعه للخروج معه ورفاقه منفردين لصيد الأرانب البرية؟ ربما.
قطع بلبان الرشيدي الصمت مقتربا بفرسه من فرس السلطان “مولانا يعلم حسن بلاء خادمه بيبرس” أفاق قطز من شروده ونظر لحظة لبلبان ثم أجاب “بلى.. لا ينكر ذلك إلا جاحد”.. تبادل محدثه نظرة سريعة مع بيبرس وقال: “فحسن ظننا بمولانا السلطان ألا يغفل عن مكافأة حسن بلائه بما هو أهل له”
عم يتحدث هذا الثرثار؟ قالها بينه وبين نفسه وهو يجيب بلبان: “بيبرس لا يقدر أحدا يوفيه حقه.. وهو عندنا في أكرم مكان”
ترجل بيبرس عن فرسه مقتربا من السلطان، أمسك يده وأحنى رأسه طابعا عليها قبلة، ثم وضعها على عينيه.. استقبل قطز الأمر ببساطة، فهذا أمر اعتادته الآداب المملوكية.. انتظر أن يترك بيبرس يده، إلا أن هذا الأخير بقي قابضا عليها بقوة زائدة.. نظر قطز إليه، رفع بصره للأمراء، فوجدهم قد قبضوا سيوفهم، أعاد النظر مباشرة لعيني بيبرس.. ثم ارتسمت على شفتيه شبح ابتسامة.. هل هي ابتسامة إعجاب باللعبة الذكية لخصمه؟ أم هي ابتسامة هازئة بذلك الذي سار وراء نبوءة ناقصة غفل عن أن يسأل نفسه أين تذهب به وإلى ما تنتهي؟
الله أعلم.
……….
القاهرة التي كانت قد تزينت استعدادا لاستقبال السلطان قطز، استيقظت على المنادي بالترحم عليه والدعاء للسلطان القاهر ركن الدين بيبرس، ولأن لقب “القاهر” كان شؤما على من حملوه سابقا من الملوك، فقد غير بيبرس لقبه ليصبح “الظاهر”.
ولأن قاعدة “مات الملك.. عاش الملك” قرينة قاعدة “الحكم لمن غلب”، فسرعان ما انقضت أيام قطز كأن لم تكن، لتستقبل قلعة الجبل سيدا جديدا، وحلقة جديدة في السلسلة المملوكية المراد لها الاستمرار حتى يقضي الله أمرا كان معلوما.
(يتبع)