“هل كان بطلا مغوارا رافعا لشأن دولته، أم كان وغدا عربيدا كما اتهمه من دبروا اغتياله؟ هل كان رج.. إحم”
ما هذه المقدمة التقليدية؟ حسنا، فلنجرب غيرها.
“هو ليس مجرد سلطان قتيل وقع ضحية مؤامرة لاغتياله كمن سواه من السلاطين، بل هو لغز حقيقي.. إنه..”
اعتقد أن هذه المقدمة أكثر إملالا ونمطية من سابقتها.
حسنا.. فلأضع الأمر برمته بين يديّ القاريء وليقرر هو من أين تبدأ القصة.. ومَن من بين أبطالها ظالم ومن مظلوم.
……….
القاهرة- سنة 1290م
لأن فتح الدين ابن عبدالظاهر -صاحب ديوان الإنشاء- يعرف شكل الموت حين يضع وسمه على وجوه من اقترب أجلهم، لم يكن من مجال لديه للتردد في إزعاج السلطان المنصور سيف الدين قلاوون الألفي في مرضه الأخير، وهو طريح فراشه، بإلحاحه أن يوقع الورقة المشرعة في يده.. تقليد ولاية العهد لابنه الأشرف خليل.. صحيح أن الأب لم يخف قَط سخطه على سلوك ابنه من انغماس في اللهو والعربدة أو بوادر كِبر وطغيان أو مصاحبته ذلك الأفاق الشامي “ابن السلعوس”، وصحيح أن لولا وفاة ولي العهد السابق ما كان السلطان ليفكر في أن يحل خليل هذه المرتبة، إلا أن مصلحة العرش الذي بذل قلاوون كل رخيص وغال ليستمر في نسله، وتلك الحملة المعدة لاسترداد عكا من الفرنجة والتي عطلها مرض السلطان، يقتضيان اتخاذ ما يلزم ولو لم يُرض عنه، وإن كان خليل فاجرًا فإنه قوي، والدولة بحاجة لقوته في ذلك الوقت الحرج، والشرع الشريف أجاز ولاية القوي الفاجر عند الضرورة، ففجوره على نفسه وقوته للدولة..وخليل ما زال شاًا في منتصف العشرينات ولم يفت أوان إصلاحه، ومن يدري لعل المسئوليات وما هو مقدم عليه من حرب ضد الفرنجة ينضجانه.. هذا ما دار-غالبًا-في ذهن صاحب ديوان الإنشاء..
ولأن المرض لم يُفقِد قلاوون عناده، فقد أشاح بوجهه عن الورقة وحاملها ولزم صمته عله يفقد الأمل فيوقف الإلحاح.. فلما بقي الكاتب على وضعه عاد السلطان للالتفات إليه واستجمع بقايا قواه المنسحبة من جسده في عبارة واحدة حاسمة قذفها وعاد ليشيح بوجهه ويغلق عليه أبواب صمت عنيد: يا فتح الدين! أنا لا أولي خليلًا على المسلمين!!
……….
وإن كان خليل لم يشهد هذا الموقف، فإن فطنته لم تُعجِزه أن يستنتج ما جرى وهو يجلس على كرسي أبيه -بعد وفاة هذا الأخير- والأمراء في حضرته يحلفون له أيمان الولاء.. فعندما طلب التقليد من ابن عبدالظاهر وقدمه له الكاتب وهو يفكر في مبرر سريع لغياب توقع السلطان الراحل عنه، لم يتكلف خليل سوى نظرة لذيل الوثيقة حتى يلقيها للكاتب باستهتار قائلًا وهو يجول بنظراته في وجوه كبار رجال الدولة الذين سلموه الحكم طواعية: “يا فتح الدين.. منعني أبي، وأعطاني الله!”
……….
سجد مقبلًا الأرض بين يديّ صديقه وسلطانه، ثم اعتدل وهو يرمق بعين متشفية عبوس وجه حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة الساخط على تلك العلاقة القوية بين السلطان وابن السلعوس المعيّن توا وزيرا.
يعرف ابن السلعوس كذلك مبلغ كراهية خليل لطرنطاي، فهذا الأخير كان يفضل ولي العهد الراحل على ذلك الذي حل محله، ولم يخف ضيقه أن صارت ولاية العهد لخليل، بل وربما كانت له يد في انتشار تلك الشائعات أن خليل قد سم أخاه ليزيحه عن طريق طموحاته.. ولطالما تعمد طرنطاي أن يهين خليلا وحاشيته وأن يعاملهم بجفاء وتعالٍ خلال عهد السلطان الراحل، بل وكان سببًا في انقلاب هذا الأخير على ابنه وبطانته لما يبثه من أخبار تنسب للابن أفعال الانحلال والفجور.. ولأن السلطان قلاوون رجل معروف أنه “لا يحب الحال المائل” فقد انفجر غضبه في وجه ابنه حتى بلغ حد رفض التوقيع على وثيقة وراثته العرش..
ولأن ابن السلعوس رجل داهية أريب يجيد قراءة البشر، فلم يستغرب أن تجاوز السلطان الجديد عن مشاعره السوداء تجاه نائب أبيه، واستقر به في نفس المنصب.. ما دام خليل قد فعل ذلك-فكر ابن السلعوس-فلا بد أنه يدبر فخًا ما لذلك الرجل البغيض..
وقد كان.. فلم تمض خمسة أيام -خمسة أيام فقط- إلا وكان السلطان يأمر بالقبض على الأمير حسام الدين طرنطاي ومصادرة ممتلكاته وأمواله وأموال أسرته.. وبعد أيام قليلة من اعتقاله خرج طرنطاي من السجن جثة هامدة مكفنة بأقاويل أن ميتته لم تكن سريعة وأن حتفه لم يلاقه إلا بعد معاناة بشعة مع مختلف ألوان التعذيب.
……….
بعد أيام قام السلطان باستدعاء ابن طرنطاي لمساءلته عن أموال أبيه، ليفاجأ بشاب أعمى مكسور النفس يقف بين يديه مادا يده وهو يبكي قائلا بذلّة “شيء لله” ويقسم له أيمانا مغلظة أنه وأهل بيت أبيه لهم أيام لم يدخل أجوافهم قوت بعد أن صودر كل شيء.
العارفون بالأشرف خليل لم يتوقعوا أن يسارع بإصداره أمر برفع المصادرة عن بعض عقارات طرنطاي المقتول ليسترزق أهله من ريعها.. هو نفسه استغرب تلك القشعريرة التي انتابت جسده وهو يرى ذلك الشاب المذلول بعد عزة يستجديه قوتا، وتلك الكآبة التي انتابته باقي نهاره وبعض ليله من هذا المشهد وهو الذي يفخر بصلابة نفسه وجفاء قلبه باعتبارهما من علامات الحزم الرجولي. ……….
بلاد الشام – محيط مدينة عكا – 1291م
استقرت المجانيق العملاقة في مواقعها المحددة… شد السلطان الأشرف خليل قامته العملاقة فوق صهوة جواده.. متأملا ببطء مدقق العسكر المصري والشامي الذي ضرب حصارا محكما حول سور المدينة.. مال عليه بعض قواده ينبئه أن القائمين بالتنقيب في السور قد أحدثوا به بعض الثغرات وأن بضع ضربات بالمنجنيق تكفي لتتهاوى تحصينات المدينة.. أربعون يوما من الحصار تخللتها المناوشات والمفاوضات، جاء ملك القبارصة لتقديم الدعم لرفاق قضيته الذين يحتلون المدينة منذ عقود طويلة، ثم رحل ساخطًا عندما أدرك من حالة الشقاق الداخلي بين قادة الإفرنج أن عكا تشهد الأيام الأخيرة لسيطرة فرسان الصليب -كما يزعمون- عليها..
ما لم يعرفه ملك قبرص هو أن معسكر المماليك كذلك شهد شقاقا عابرا، فالسلطان في واحدة من نوبات غضبه وارتيابه المفاجئة أمر بالقبض على بعض قادته وترحيلهم للسجن في القاهرة.. وبصعوبة أقنعه العقلاء من رجاله أن تصرفا كهذا في وسط العمليات العسكرية سيمثل كارثة محققة للحملة تهدد بإخفاقها! ولأن السلطان رجل متقلب المزاج فقد وافق القول اعتدالا في مزاجه فتراجع عن تلك الحماقة مضمرا في نفسه أمرا، لكن بعد انتهاء الحرب.. وفي نفس الوقت الذي كان يخطط فيه للتنكيل ببعض الأمراء، كان يصدر أمرا برفع ضريبة ثقيلة كان سلفه قد فرضها على تجارة الشام، فأمر هو برفعها لأنها -على حد قوله- مظلمة ولأنه يبتغي أن يدعوا له الناس بالخير، ثم عاد للتخطيط للتخلص ممن يزعجونه من المعارضين!
استمر الحصار حتى انفتحت الثغرات المطلوبة فانسال الجيش عبرها لتدور المعارك الدامية في الأزقة والشوارع وحول قلعة المدينة التي تحصنت بها فرقتا فرسان الهيكل (الداوية) وفرسان القديس يوحنا (الإسبتارية).. استمرت المقاومة قليلا ثم عرضت الفرقتان الاستسلام مقابل حقن الدماء فأعطاهما السلطان الأمان، فنزل المقاتلون من حيث كانوا يتحصنون.. ولم يمض وقت قليل حتى ارتفعت همهمات استياء بين قادة السلطان، فهذا الأخير لم يلبث أن نكث بوعده وأمر بقتل الجنود المستأمنون .. ولا أحد يدري هل كان منحهم الأمان في واحدة من نوبات رضاه أم كان رجوعه فيه في واحدة من نوبات سخطه، أم أنه لاحظ تطابق يوم وساعة استرداد المدينة مع يوم وساعة دخول الفرنجة لها فأراد أن يطابق الحاضرالماضي ففعل بهم كما فعل أسلافهم بمن طلبوا الأمان من جنود المسلمين عند اقتحام الأوروبيون لها، فترك خلفه على مشارف المدينة المستردة تلًا من آلاف الجثث التي تفوح منها رائحة العفن والموت وتتكالب عليها الجوارح وآكلات الجيف..
……….
القاهرة – العام التالي
تلوى الجسد المعذّب وقد رسم الوتر المشدود حول عنقه خطًا داميا بين بياض الجسد وزرقة غزت الوجه.. فقد صاحبه التحكم في أبسط عضلات جسده، فانسال من بين ساقه خيط سائل نفاذ الرائحة وارتفعت رائحة الغاز المتعفن في بطنه.. الخنّاق يعرف شغله جيدا، فهو يجيد ضغط الوتر على الحلق بحيث يخنق الضحية ببطء دون أن يخترق العنق فيذبحها ويريحها.. فعلها بحضرة السلطان منفذا أمره في بعض أمرائه، ولم يبقى إلا ذلك الأخير لاجين.. يهبط خليل عن كرسيه ويميل نحو حسام الدين لاجين المتلوي ألما ورعبا وقد جحظت عيناه اللتان احتلت بياضهما شعيرات حمراء قانية.. ترددت يد الخناق حول الوتر حاسبا السلطان يرغب في قول كلمات أخيرة لضحيته، إلا أن خليل أشار له أن أكمل عملك.. لحظة التردد منحت لاجين فرصة ليستجمع قواه -أو لعلها حلاوة الروح- ليصرخ بصوت مخنوق “يا خوند”.. عاد خليل يشير لجلاده بالتوقف هذه المرة.. الفضول لمعرفة ما الذي قد يكون آخر حديث للمملوك الألماني الأصل دفعه للاقتراب منه مقربا أذنه من فمه.. انتهز الرجل الفرصة فأكمل بسرعة: “يا خوند.. إيش كان ذنبي؟ ذنبي صهري لطقصوا بزواجي من ابنته؟!” التفت السلطان لجثة الأمير طقصوا الملقاة بين أجساد رفاقه، فأردف لاجين “طقصوا قد هلك.. وأنا أطلق ابنته”.
اعتقد أن عفو السلطان عن لاجين ورده لمنصبه ولقبه لن يثير دهشة القاريء لما قد لاحظه في هذا الرجل من سرعة تقلب الأحوال كتقلب الليل والنهار.. جدير بالذكر أن لاجين هذا ورفاقه الذين لم يكونوا بنفس حظه كانوا قد تلقوا تكريما من السلطان منذ فترة بسيطة، قبل أن يأمر بحبسهم ثم إعدامهم في حضرته..جدير بالذكر كذلك أن أعظم هؤلاء جرما والوحيد الذي ثبت بالفعل ضلوعه في التآمر على السلطان هو لاجين نفسه! ومن نافلة القول أنه لم يتوقف عن التآمر حتى بعد أن أضيفت لعنقه ندبة أثر ذلك الوتر الذي التف عليه لولا عفو من كان يخامر ضده! ……….
وكارثة الإنسان المتقلب أنه عشوائي الرضا والسخط، فلا هو يضع العفو في مواضعه ولا هو يضع البطش في موضعه، فيعادي من عليه مقاربته ويقرب من عليه أن يعاديه!
هكذا دق الأشرف خليل بن قلاوون المسمار الأول في نعشه!
……….
إلى جانب لاجين كان الخطر يطل برأسه من شخص آخر.. ففي داره كان نائب السلطنة -الذي خلف طرنطاي المقتول- الأمير بيدرا يستقبل رسالة هامة.. فضها وقرأ محتواها فعلت ملامحه التي تنم عن أصل مغولي وسن لم تتجاوز الأربعين علامات الرضا والانتصار.
لم يعتد أن ينتظر حتى يطبق الخطر فكيه عليه، فإن كان خليل قد قربه وجعله نائبا له، إلا أنه يكثر من مساءلته ومحاسبته بفظاظة ويبالغ في الحط عليه مستخفا بمكانته بين الأمراء.. وهو يعرف أنه شاب هوائي، فلن ينتظر لنفسه مصير سلفه طرنطاي.
دبر الأمر وأحكم معموليته، خامر مع من يشاركونه من الأمراء السخط على السلطان والارتياب فيما قد يكون مصيرهم لو أصابتهم بعض سهام تقلبه.
لم تكن تواجههم سوى عقبة واحدة: الرعية.. فرغم ما يشاع عن الأشرف خليل من انحرافات شخصية كشرب الخمر والعربدة وبعض العلاقات المشبوهة ببعض مماليكه، إلا أن الناس في مصر والشام يحبون سلطانهم لرفقه بهم ونشاطه في القضاء على الوجود الفرنجي وتحرشات المغول على الحدود.. وبيدرا لم يكن ليعنيه لو كان بطش خليل يطال العوام دون الأمراء، أما وبطشه مرفوع عن العامة وطائل للخاصة فهذا ما لا يُحتَمَل… لم يكن أمامه حل لإسكات أي غضب محتمل من الرعية من المساس بالسلطان سوى تلك الرسالة التي أرسلها والتي انتظر ردها بفارغ الصبر.
كان نص الرسالة يقول: “نسأل فقهاء الشرع الشريف في شأن رجل لا يصلي ويشرب الخمر في نهار رمضان ويفسق بالغلمان، هل يجوز قتله وهل على قاتله ذنب؟” وكان الرد: “يحل دمه، وليس على قاتله ذنب”
التفت بيدرا إلى خادمه الثقة حامل الرد، وقال له بصوت غلب عليه الظفر: “سأحملك رسالة للأمير لاجين.. وعليك أن تخبره أني انتظر الرد في الحال!”
(يتبع)
ما هذه المقدمة التقليدية؟ حسنا، فلنجرب غيرها.
“هو ليس مجرد سلطان قتيل وقع ضحية مؤامرة لاغتياله كمن سواه من السلاطين، بل هو لغز حقيقي.. إنه..”
اعتقد أن هذه المقدمة أكثر إملالا ونمطية من سابقتها.
حسنا.. فلأضع الأمر برمته بين يديّ القاريء وليقرر هو من أين تبدأ القصة.. ومَن من بين أبطالها ظالم ومن مظلوم.
……….
القاهرة- سنة 1290م
لأن فتح الدين ابن عبدالظاهر -صاحب ديوان الإنشاء- يعرف شكل الموت حين يضع وسمه على وجوه من اقترب أجلهم، لم يكن من مجال لديه للتردد في إزعاج السلطان المنصور سيف الدين قلاوون الألفي في مرضه الأخير، وهو طريح فراشه، بإلحاحه أن يوقع الورقة المشرعة في يده.. تقليد ولاية العهد لابنه الأشرف خليل.. صحيح أن الأب لم يخف قَط سخطه على سلوك ابنه من انغماس في اللهو والعربدة أو بوادر كِبر وطغيان أو مصاحبته ذلك الأفاق الشامي “ابن السلعوس”، وصحيح أن لولا وفاة ولي العهد السابق ما كان السلطان ليفكر في أن يحل خليل هذه المرتبة، إلا أن مصلحة العرش الذي بذل قلاوون كل رخيص وغال ليستمر في نسله، وتلك الحملة المعدة لاسترداد عكا من الفرنجة والتي عطلها مرض السلطان، يقتضيان اتخاذ ما يلزم ولو لم يُرض عنه، وإن كان خليل فاجرًا فإنه قوي، والدولة بحاجة لقوته في ذلك الوقت الحرج، والشرع الشريف أجاز ولاية القوي الفاجر عند الضرورة، ففجوره على نفسه وقوته للدولة..وخليل ما زال شاًا في منتصف العشرينات ولم يفت أوان إصلاحه، ومن يدري لعل المسئوليات وما هو مقدم عليه من حرب ضد الفرنجة ينضجانه.. هذا ما دار-غالبًا-في ذهن صاحب ديوان الإنشاء..
ولأن المرض لم يُفقِد قلاوون عناده، فقد أشاح بوجهه عن الورقة وحاملها ولزم صمته عله يفقد الأمل فيوقف الإلحاح.. فلما بقي الكاتب على وضعه عاد السلطان للالتفات إليه واستجمع بقايا قواه المنسحبة من جسده في عبارة واحدة حاسمة قذفها وعاد ليشيح بوجهه ويغلق عليه أبواب صمت عنيد: يا فتح الدين! أنا لا أولي خليلًا على المسلمين!!
……….
وإن كان خليل لم يشهد هذا الموقف، فإن فطنته لم تُعجِزه أن يستنتج ما جرى وهو يجلس على كرسي أبيه -بعد وفاة هذا الأخير- والأمراء في حضرته يحلفون له أيمان الولاء.. فعندما طلب التقليد من ابن عبدالظاهر وقدمه له الكاتب وهو يفكر في مبرر سريع لغياب توقع السلطان الراحل عنه، لم يتكلف خليل سوى نظرة لذيل الوثيقة حتى يلقيها للكاتب باستهتار قائلًا وهو يجول بنظراته في وجوه كبار رجال الدولة الذين سلموه الحكم طواعية: “يا فتح الدين.. منعني أبي، وأعطاني الله!”
……….
سجد مقبلًا الأرض بين يديّ صديقه وسلطانه، ثم اعتدل وهو يرمق بعين متشفية عبوس وجه حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة الساخط على تلك العلاقة القوية بين السلطان وابن السلعوس المعيّن توا وزيرا.
يعرف ابن السلعوس كذلك مبلغ كراهية خليل لطرنطاي، فهذا الأخير كان يفضل ولي العهد الراحل على ذلك الذي حل محله، ولم يخف ضيقه أن صارت ولاية العهد لخليل، بل وربما كانت له يد في انتشار تلك الشائعات أن خليل قد سم أخاه ليزيحه عن طريق طموحاته.. ولطالما تعمد طرنطاي أن يهين خليلا وحاشيته وأن يعاملهم بجفاء وتعالٍ خلال عهد السلطان الراحل، بل وكان سببًا في انقلاب هذا الأخير على ابنه وبطانته لما يبثه من أخبار تنسب للابن أفعال الانحلال والفجور.. ولأن السلطان قلاوون رجل معروف أنه “لا يحب الحال المائل” فقد انفجر غضبه في وجه ابنه حتى بلغ حد رفض التوقيع على وثيقة وراثته العرش..
ولأن ابن السلعوس رجل داهية أريب يجيد قراءة البشر، فلم يستغرب أن تجاوز السلطان الجديد عن مشاعره السوداء تجاه نائب أبيه، واستقر به في نفس المنصب.. ما دام خليل قد فعل ذلك-فكر ابن السلعوس-فلا بد أنه يدبر فخًا ما لذلك الرجل البغيض..
وقد كان.. فلم تمض خمسة أيام -خمسة أيام فقط- إلا وكان السلطان يأمر بالقبض على الأمير حسام الدين طرنطاي ومصادرة ممتلكاته وأمواله وأموال أسرته.. وبعد أيام قليلة من اعتقاله خرج طرنطاي من السجن جثة هامدة مكفنة بأقاويل أن ميتته لم تكن سريعة وأن حتفه لم يلاقه إلا بعد معاناة بشعة مع مختلف ألوان التعذيب.
……….
بعد أيام قام السلطان باستدعاء ابن طرنطاي لمساءلته عن أموال أبيه، ليفاجأ بشاب أعمى مكسور النفس يقف بين يديه مادا يده وهو يبكي قائلا بذلّة “شيء لله” ويقسم له أيمانا مغلظة أنه وأهل بيت أبيه لهم أيام لم يدخل أجوافهم قوت بعد أن صودر كل شيء.
العارفون بالأشرف خليل لم يتوقعوا أن يسارع بإصداره أمر برفع المصادرة عن بعض عقارات طرنطاي المقتول ليسترزق أهله من ريعها.. هو نفسه استغرب تلك القشعريرة التي انتابت جسده وهو يرى ذلك الشاب المذلول بعد عزة يستجديه قوتا، وتلك الكآبة التي انتابته باقي نهاره وبعض ليله من هذا المشهد وهو الذي يفخر بصلابة نفسه وجفاء قلبه باعتبارهما من علامات الحزم الرجولي. ……….
بلاد الشام – محيط مدينة عكا – 1291م
استقرت المجانيق العملاقة في مواقعها المحددة… شد السلطان الأشرف خليل قامته العملاقة فوق صهوة جواده.. متأملا ببطء مدقق العسكر المصري والشامي الذي ضرب حصارا محكما حول سور المدينة.. مال عليه بعض قواده ينبئه أن القائمين بالتنقيب في السور قد أحدثوا به بعض الثغرات وأن بضع ضربات بالمنجنيق تكفي لتتهاوى تحصينات المدينة.. أربعون يوما من الحصار تخللتها المناوشات والمفاوضات، جاء ملك القبارصة لتقديم الدعم لرفاق قضيته الذين يحتلون المدينة منذ عقود طويلة، ثم رحل ساخطًا عندما أدرك من حالة الشقاق الداخلي بين قادة الإفرنج أن عكا تشهد الأيام الأخيرة لسيطرة فرسان الصليب -كما يزعمون- عليها..
ما لم يعرفه ملك قبرص هو أن معسكر المماليك كذلك شهد شقاقا عابرا، فالسلطان في واحدة من نوبات غضبه وارتيابه المفاجئة أمر بالقبض على بعض قادته وترحيلهم للسجن في القاهرة.. وبصعوبة أقنعه العقلاء من رجاله أن تصرفا كهذا في وسط العمليات العسكرية سيمثل كارثة محققة للحملة تهدد بإخفاقها! ولأن السلطان رجل متقلب المزاج فقد وافق القول اعتدالا في مزاجه فتراجع عن تلك الحماقة مضمرا في نفسه أمرا، لكن بعد انتهاء الحرب.. وفي نفس الوقت الذي كان يخطط فيه للتنكيل ببعض الأمراء، كان يصدر أمرا برفع ضريبة ثقيلة كان سلفه قد فرضها على تجارة الشام، فأمر هو برفعها لأنها -على حد قوله- مظلمة ولأنه يبتغي أن يدعوا له الناس بالخير، ثم عاد للتخطيط للتخلص ممن يزعجونه من المعارضين!
استمر الحصار حتى انفتحت الثغرات المطلوبة فانسال الجيش عبرها لتدور المعارك الدامية في الأزقة والشوارع وحول قلعة المدينة التي تحصنت بها فرقتا فرسان الهيكل (الداوية) وفرسان القديس يوحنا (الإسبتارية).. استمرت المقاومة قليلا ثم عرضت الفرقتان الاستسلام مقابل حقن الدماء فأعطاهما السلطان الأمان، فنزل المقاتلون من حيث كانوا يتحصنون.. ولم يمض وقت قليل حتى ارتفعت همهمات استياء بين قادة السلطان، فهذا الأخير لم يلبث أن نكث بوعده وأمر بقتل الجنود المستأمنون .. ولا أحد يدري هل كان منحهم الأمان في واحدة من نوبات رضاه أم كان رجوعه فيه في واحدة من نوبات سخطه، أم أنه لاحظ تطابق يوم وساعة استرداد المدينة مع يوم وساعة دخول الفرنجة لها فأراد أن يطابق الحاضرالماضي ففعل بهم كما فعل أسلافهم بمن طلبوا الأمان من جنود المسلمين عند اقتحام الأوروبيون لها، فترك خلفه على مشارف المدينة المستردة تلًا من آلاف الجثث التي تفوح منها رائحة العفن والموت وتتكالب عليها الجوارح وآكلات الجيف..
……….
القاهرة – العام التالي
تلوى الجسد المعذّب وقد رسم الوتر المشدود حول عنقه خطًا داميا بين بياض الجسد وزرقة غزت الوجه.. فقد صاحبه التحكم في أبسط عضلات جسده، فانسال من بين ساقه خيط سائل نفاذ الرائحة وارتفعت رائحة الغاز المتعفن في بطنه.. الخنّاق يعرف شغله جيدا، فهو يجيد ضغط الوتر على الحلق بحيث يخنق الضحية ببطء دون أن يخترق العنق فيذبحها ويريحها.. فعلها بحضرة السلطان منفذا أمره في بعض أمرائه، ولم يبقى إلا ذلك الأخير لاجين.. يهبط خليل عن كرسيه ويميل نحو حسام الدين لاجين المتلوي ألما ورعبا وقد جحظت عيناه اللتان احتلت بياضهما شعيرات حمراء قانية.. ترددت يد الخناق حول الوتر حاسبا السلطان يرغب في قول كلمات أخيرة لضحيته، إلا أن خليل أشار له أن أكمل عملك.. لحظة التردد منحت لاجين فرصة ليستجمع قواه -أو لعلها حلاوة الروح- ليصرخ بصوت مخنوق “يا خوند”.. عاد خليل يشير لجلاده بالتوقف هذه المرة.. الفضول لمعرفة ما الذي قد يكون آخر حديث للمملوك الألماني الأصل دفعه للاقتراب منه مقربا أذنه من فمه.. انتهز الرجل الفرصة فأكمل بسرعة: “يا خوند.. إيش كان ذنبي؟ ذنبي صهري لطقصوا بزواجي من ابنته؟!” التفت السلطان لجثة الأمير طقصوا الملقاة بين أجساد رفاقه، فأردف لاجين “طقصوا قد هلك.. وأنا أطلق ابنته”.
اعتقد أن عفو السلطان عن لاجين ورده لمنصبه ولقبه لن يثير دهشة القاريء لما قد لاحظه في هذا الرجل من سرعة تقلب الأحوال كتقلب الليل والنهار.. جدير بالذكر أن لاجين هذا ورفاقه الذين لم يكونوا بنفس حظه كانوا قد تلقوا تكريما من السلطان منذ فترة بسيطة، قبل أن يأمر بحبسهم ثم إعدامهم في حضرته..جدير بالذكر كذلك أن أعظم هؤلاء جرما والوحيد الذي ثبت بالفعل ضلوعه في التآمر على السلطان هو لاجين نفسه! ومن نافلة القول أنه لم يتوقف عن التآمر حتى بعد أن أضيفت لعنقه ندبة أثر ذلك الوتر الذي التف عليه لولا عفو من كان يخامر ضده! ……….
وكارثة الإنسان المتقلب أنه عشوائي الرضا والسخط، فلا هو يضع العفو في مواضعه ولا هو يضع البطش في موضعه، فيعادي من عليه مقاربته ويقرب من عليه أن يعاديه!
هكذا دق الأشرف خليل بن قلاوون المسمار الأول في نعشه!
……….
إلى جانب لاجين كان الخطر يطل برأسه من شخص آخر.. ففي داره كان نائب السلطنة -الذي خلف طرنطاي المقتول- الأمير بيدرا يستقبل رسالة هامة.. فضها وقرأ محتواها فعلت ملامحه التي تنم عن أصل مغولي وسن لم تتجاوز الأربعين علامات الرضا والانتصار.
لم يعتد أن ينتظر حتى يطبق الخطر فكيه عليه، فإن كان خليل قد قربه وجعله نائبا له، إلا أنه يكثر من مساءلته ومحاسبته بفظاظة ويبالغ في الحط عليه مستخفا بمكانته بين الأمراء.. وهو يعرف أنه شاب هوائي، فلن ينتظر لنفسه مصير سلفه طرنطاي.
دبر الأمر وأحكم معموليته، خامر مع من يشاركونه من الأمراء السخط على السلطان والارتياب فيما قد يكون مصيرهم لو أصابتهم بعض سهام تقلبه.
لم تكن تواجههم سوى عقبة واحدة: الرعية.. فرغم ما يشاع عن الأشرف خليل من انحرافات شخصية كشرب الخمر والعربدة وبعض العلاقات المشبوهة ببعض مماليكه، إلا أن الناس في مصر والشام يحبون سلطانهم لرفقه بهم ونشاطه في القضاء على الوجود الفرنجي وتحرشات المغول على الحدود.. وبيدرا لم يكن ليعنيه لو كان بطش خليل يطال العوام دون الأمراء، أما وبطشه مرفوع عن العامة وطائل للخاصة فهذا ما لا يُحتَمَل… لم يكن أمامه حل لإسكات أي غضب محتمل من الرعية من المساس بالسلطان سوى تلك الرسالة التي أرسلها والتي انتظر ردها بفارغ الصبر.
كان نص الرسالة يقول: “نسأل فقهاء الشرع الشريف في شأن رجل لا يصلي ويشرب الخمر في نهار رمضان ويفسق بالغلمان، هل يجوز قتله وهل على قاتله ذنب؟” وكان الرد: “يحل دمه، وليس على قاتله ذنب”
التفت بيدرا إلى خادمه الثقة حامل الرد، وقال له بصوت غلب عليه الظفر: “سأحملك رسالة للأمير لاجين.. وعليك أن تخبره أني انتظر الرد في الحال!”
(يتبع)