الشدة المستنصرية..عندما أكل المصريون البشر فى اسوأ مجاعة فى تاريخ مصر

 الشدة المستنصرية

فى العصر العبيدي (الفاطمي) شهدت مصر خلال عهد المستنصر بالله أحداثًا جسامًا، وتقلّبات اقتصادية وسياسية واجتماعية سريعة، أثرت سلبًا على مركز الدولة، فتراجعت قوتها، وبذلك يُعدّ عهد المستنصر حدًا فاصلاً بين عهد الملوك العبيديين الأقوياء، وعهد الوزراء، ففى أثنائها نقلت السلطة العبيدية نهائيًا من أيدي أسرة العبيديين إلى أيدي الوزراء، فيما عُرف في التاريخ العبيدي بعصر الوزراء، ولم يتمكن المستنصر ولا من أتى بعده من التخلص من براثنهم، تعالوا نتناول بشيء من التفصيل عن الشدة المستنصرية واهوالها واحداثها الجسام التى تجرعتها البلاد فى تلك الفترة.

الخليفة المستنصر بالله العبيدي

هو المستنصر بالله أبو تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم بن العزيز بن المعز لدين الله العبيدي الفاطمي، تولى الخلافة العبيدية الفاطمية خلفًا لوالده وهو ابن سبع سنين في النصف من شعبان سنة 427هـ / 1036م، وأقام بها ستين سنة إلى 487هـ / 1094م.

وقد بلغت الخلافة العبيدية الفاطمية في عهد من القوة والاتساع والازدهار ما لم يبلغه أحد قبله، حيث امتد سلطان الخلافة ليشمل بلاد الشام وفلسطين والحجاز وصقلية وشمال إفريقيا، وتردد اسمه على المنابر في هذه البلاد، وخُطب له في بغداد لمدة عام وذلك في سنة (450هـ / 1058م).

ودام ذلك حتى تغلبت أمه على الدولة، فكانت تصطنع الوزراء وتوليهم، ومن استوحشت منه أوعزت بقتله فيقتل، مما أثار الفتن وعمت الفوضى والاضطرابات، ومنه حل الخراب على الدولة كلها إلى أن سقطت بنفو الوزراء وضياع هيبة الخليفة. وقد كان سب الصحابة فاشيا في أياما لمستنصر، والسنة غريبة مكتومة، حتى إنهم منعوا الحافظ أبا إسحاق الحبال من رواية الحديث، وهددوه فامتنع.

قال ابن خلكان رحمه الله: "جرى على أيامه ما لم يجر على أيام أحد من أهل بيته ممن تقدمه ولا تأخره"، منها: حادثة البساسيري الذي قطع الخطبة للخليفة القائم بأمر الله وخطب للمستنصر ببغداد سنة 450هـ، ومنها أنه أقام في الأمر ستين سنة، وهذا أمر لم يبلغه أحد من أهل بيته ولا من خلفاء الإسلام، ومنها أنه حدث في أيام خلافته في مصر الغلاء العظيم الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف عليه السلام، وهو ما يعرف بالشدة المستنصرية أو الشدة العظمى.

عهد المستنصر بالله العبيدي

کانت شؤون الدولة في أيدي عدد من الوسطاء الذین کانت جهودهم موجهة لمحاولة الاحتفاظ بالوضع القائم، ولكن ذلك كان أمرًا مستحيلاً، إذ أن تاريخ هذه المرحلة يقتصر على أخبار متكررة من فوضى داخلية متواصلة، وتدهور مستمر في أوضاع مصر الاقتصادية، فقد انخفض الإنتاج الزراعي بسرعة حتى أن الفاطميين اضطروا إلى إجراء مفاوضات مع البيزنطيين بتأمين القمح من بيزنطية، واجتاحت البلاد الأوبئة، بالإضافة إلى أزمة إدارية حادة أضعفت قوة الدولة ونفوذها.

هذا على الرغم من حالة الرخاء التي شهدتها البلاد في أوائل عهد المستنصر والتي لم تستمر طويلاً، فقد أشاد الرحالة ناصر خسرو بالأمن الذي شاهده في مصر في أوائل عهد المستنصر، وقال ”إنه لم يره في بلد من قبل“، وعلّل ذلك بفضل المذهب الإسماعيلي الذي عدّه كفيلاً بإنقاذ العالم الإسلامي، وإذا صدّقنا ناصر خسرو على الرغم مما يبدو على وصفه دائمًا من مبالغات كان يهدف منها إلى كسب الرأي العام في فارس لصالح العبيديين الإسماعيليين، وضد السلاجقة المسلمين، الذين بدأوا يظهرون على المسرح السياسي.

أحداث خلافة المستنصر

شهد الوضع السياسي الداخلي صراعات دامية بين طوائف الجند المختلفة، وبخاصة الأتراك والسودان في ظل حکم صبي، ولم یکن أمام القیمین الفاطميين أي خيار آخر غير التسليم بسلطة عسكرية تنقذهم وتنتشل البلاد من الانحلال التام، ولكن لم ينجح العسكريون فى فعل أي شيء، بل كانوا سببًا أساسيًا فى تفاقم الأوضاع، وازديادها سوءًا.

شهد أواخر عهد المستنصر (427هـ - 487هـ) عدة اضطرابات عظيمة في البلاد، منها:

1- أن الجند السودانيون يثيرون الاضطرابات في الوجه القبلي.
2- ونحوًا من أربعين ألف فارس من قبيلة لواتة والأعراب، تحت زعامة ناصر الدولة الحسين بن حمدان التغلبي (المتمرد على الخلافة العبيدية الفاطمية)، يغيرون على الوجه البحري وينهبون بلاده ويحطمون الجسور والقنوات، مما ترتب عليه انقطاع المئونة عن القاهرة والفسطاط.
3- وفى سنة 462هـ بعث ناصر الدولة إلى ألب أرسلان سلطان السلاجقة بالعراق رسولًا من قبله يسأله أن يرسل إليه عسكرًا ليقيم الدعوة العباسية بمصر على أن تؤول إليه السيادة على مصر، فرحب أرسلان بذلك، ولكنه انشغل بمحاربة الروم عن مصر.
4- وفى سنة 464هـ قطع ابن حمدان اسم المستنصر من الخطبة في الوجه البحري، وبعث إلى الخليفة القائم العباسي ببغداد يلتمس الخلع، ثم قدم إلى الفسطاط وتولي الحكم في القاهرة، وأطلق للخليفة مائة دينار كل شهر وخشي الأتراك على أنفسهم من جراء استبداد ناصر الدولة بالأمور في القاهرة، فدبروا لقتله فقتل وتتبعوا كل أفراد أسرته بمصر وتخلصوا منهم.

تدهور الوضع الاقتصادي

کانت تنتاب مصر من وقت لآخر المجاعات، التی یسببها نقص منسوب میاه النیل، فتُترك الأرض من دون زراعة، لعدم توفر المياه اللازمة للري، ويتعذر وجود الأقوات، وترتفع الأسعار، وتزداد الحالة تفاقمًا في غياب التخطيط الاقتصادي السلیم.

وقد استمرت الأزمات الاقتصادية في عهد الاخشیدیین مدة تسعة أعوام، بحيث أنها كانت أحد الأسباب التي أدّت إلى مجيء العبيديين، وعلى الرغم من التدابير الاقتصادية الناجحة، التى اتخذتها الحكومات العبيدية المتعاقبة، لتفادي الأزمات الاقتصادية، إلا أن المجاعات عادت إلى الظهور في عهد الحاكم بأمر الله بين أعوام (395 – 399 ه)، وازدادت في عهد الظاهر، بسبب کثرة القوارض التى أتت على كل شيء، وبلغت الذروة في عهد المستنصر.

فبعد أزمة الحنطة التى حدثت في عام (40 هـ)، عاد منسوب النيل إلى التناقص في الأعوام (٤٤٢هـ)، (447هـ)، (457هـ – 464هـ)، وأصيبت مصر بأسوأ أزمة اقتصادية مرّت بها في عصورها التاريخية، فارتفعت الأسعار، وتزايد الغلاء، وأعقبه الوباء، حتى خلت الأراضي من الزرع والضرع، وتفشى الجوع لعدم توفر الأقوات.


محاولات فاشلة للأصلاح

عالج الوزير أبو محمد الحسن اليازوري هذا الوضع الاقتصادي المتدهور بشکل ارتجالي دون تخطیط سلیم، بهدف التقرب من المستنصر، فقد کان هذا الأخير يشتري في كل عام غلالاً بمائة ألف دينار، ويخزنها بهدف الاتجار بها، فكان الاحتفاظ بهذه الغلال يشكل احتياطًا للبلاد، لكن اليازوري أقنعه بالاستعاضة عن تخزين الغلال، بتخزين مواد ذات مدخول أفضل، وذلك بهدف الحصول على نسبة أعلی من الريح.

ترتب على ذلك أنه عندما حدثت المجاعات لم يكن هناك احتياطي من الغلال، كما تلاعب التجار بأسعار الغلال التي في حوزتهم، فكانوا يخفونها لبيعها بالسعر الذي يريدونه، وتصدّى اليازوري لهذه الظاهرة، فصادر ما في مخازن التجار، وختم عليها، وأجرى مفاوضات مع الحكومة البيزنطية لاستيراد الحبوب من بيزنطية.
حلول المجاعة بالبلاد:

استمرت الأزمة بعد موت الیازوري في عام (450هـ)، وکان سببها الرئيسي تلك الصراعات، التى بدأت فى العقد الخامس، وقد شخص المقريزي أسباب الأزمة فذكر أنه، لما قُتل الوزير اليازوري

”لم ترَ الدولة صلاحًا، ولا استقام لها أمر، ووقع الاختلاف بین عبید الدولة، وضعفت قوی الوزراء عن تدبیرهم لقصر مدتهم، فخربت أعمال الدولة، وقل ارتفاعها، وتقلب الرجال على معظمها، واستضعفوا ارتفاعها، حتى انتهى ارتفاع الأرض السفلى إلى ما لا نسبة له من ارتفاعها الأول، وطغى الرجال وتجزأوا، حتى خرجوا عن طلب الواجبات إلى المصادرة، فاستنفدوا أموال الخليفة، وأخلوا منها خزائنه، وأحوجوه إلى بيع أغراضه، ثم زادوا في الجرأة، حتى صاروا إلى تقويم ما يخرج من الأعراض، وتلاشت الأمور، واضمحل الملك، وعلموا أنه لم يبق ما يلتمس إخراجه لهم، فتقاسموا الأعمال، ودام ذلك بينهم سنوات إلى أن قصر ماء النيل، فساعد ذلك على زيادة الأزمة لعدم وجود من يزرع ما شمله الري، لاتصال الفتن بين العربان، واختلال أحوال المملكة، واستيلاء الأمراء على الدولة“.

وقد بلغت الأزمة أوجها في عام (457هـ)، وامتدت سبعة أعوام، وعُرفت بالشدة المستنصرية، نسبة إلى المستنصر بالله العبيدي، وكانت أكثر وضوحًا في الأقسام الشمالية للفسطاط، فقد خربت القطائع، حتى أمر الوزير ببناء حائط يستر الخراب عن نظر المستنصر إذا سار من القاهرة إلى الفسطاط، فيما بين العسكر والقطائع وبين الطريق، كما أمر ببناء حائط آخر عند جامع ابن طولون.

وعندما دخل أمير الجيوش بدر الجمالي إلى مصر في عام (٤٦٦هـ)، کانت هذه الأماکن خاویة علی عروشها، خالیة من سکانها، وأضحت القاهرة يبابًا دائرة، فأباح للناس من العسكرية والملحية والأرمن وكل من وصلت قدرته، إلى عمارة أن يعمر ما شاء فى القاهرة مما خلا من دور الفسطاط بموت أهلها، فأخذ الناس في هدم المساكن ونحوها بمصر، وعمروا بها القاهرة.


أهوال الشدة المستنصرية

شاءت الأقدار أن لا تقتصر معاناة البلاد على اختلال الإدارة والفوضى السياسية، فجاء نقصان منسوب مياه النيل ليضيف إلى البلاد أزمة عاتية. وتكرر هذا النقصان ليصيب البلاد بكارثة كبرى ومجاعة داهية امتدت لسبع سنوات متصلة (457هـ - 464هـ / 1065م - 1071م) ، وسببها ضعف الخلافة واختلال أحوال المملكة واستيلاء الأمراء على الدولة، واتصال الفتن بين العربان وقصور النيل، فزادات الغلاء وأعقبه الوباء، حتى تعطلت الأرض عن الزراعة، شمل الخوف وخيفت السبل برًا وبحرًا.

وقد تخلل تلك المجاعة أعمال السلب والنهب وعمت الفوضى، واشتدت تلك المجاعة حتى لم يجد فيها الناس شيئا يأكلوه فأكلوا الميتة والبغال والحمير، وبيع رغيف الخبز الواحد بخمسين دينارًا.

كانت آثار هذه الأزمة شديدة على السكان، فعانوا الأمرّين في معيشتهم، وتفاقمت أسعار الأطعمة، فبيعت البيضة بعشرة قراريط من الأرض، وبلغت شربة الماء دينارًا، وكان رغيف الخبز يُباع فى المزادات مثلما تباع التحف والطرف، ثم انتهى الدقيق والخبز، فأُكلت الكلاب والقطط، حتى كان سعر الكلب خمسة دنانير.

وبيعت حارة بأكملها مقابل طبق خبز، عن كل دار رغيف، فعُرفت تلك الحارة بحارة (طبق)، وقد اندثرت فيما اندثر ، وأكل الناس جريد النخل، وتزايد الحال سوءًا، حتى أكل الناس الجيف والموتى.

وذكر ابن إياس من العجائب التي لا يصدقها عقل زمن تلك المجاعة، ومنها: أن الناس أكلوا الكلاب والقطط، وكان ثمن الكلب الواحد خمسة دنانير والقط ثلاثة، وقيل كان الكلب يدخل البيت فيأكل الطفل الصغير وأبواه ينظران إليه فلا يستطيعان النهوض لدفعه عن ولدهما من شدة الجوع والضعف، ثم اشتد الأمر حتى صار الرجل يأخذ ابن جاره ويذبحه ويأكله ولا ينكر ذلك عليه أحد من الناس، وصار الناس في الطرقات إذا قوى القوى على الضعيف يذبحه ويأكله.

وذكر كذلك أن طائفة من الناس جلسوا فوق أسقف البيوت وصنعوا الخطاطيف والكلاليب لاصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح، فإذا صار عندهم ذبحوه في الحال وأكلوه بعظامه.

ويروي إياس أن وزير البلاد لم يكن يمتلك سوى بغل واحد يركبه، فعهد بالبغل إلى غلام ليحرسه، إلا أن الغلام من شدة جوعه كان ضعيفًا فلم يستطع أن يواجه اللصوص الذين سرقوا البغل، وعندما علم الوزير بسرقة بغله غضب غضبا شديدا، وتمكن من القبض على اللصوص، وقام بشنقهم على شجرة، وعندما استيقظ الصباح وجد عظام اللصوص فقط؛ لأن الناس من شدة جوعهم أكلوا لحومهم.

وقيل: إنه كان بمصر حارة تعرف بحارة الطبق، وهي معروفة بمدينة الفسطاط، كان فيها عشرون دارا، كل دار تساوي ألف دينار، فأبيعت كلها بطبق خبز، كل دار برغيف، فسميت من يومئذ بحارة الطبق.

وذكر ابن الأثير أنه اشتد الغلاء، حتى حكي أن امرأة أكلت رغيفا بألف دينار، وباعت عروضا تساوي ألف دينار بثلاث مائة دينار، فاشترت بها شوالًا من القمح، فانتهبه الناس، فنهبت هي منه، فحصل لها ما خبز رغيفًا.

وذكر سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان أن امرأة خرجت ومعها قدر ربع جوهر من اللؤلؤ، فقالت من يأخذ مني هذا الجوهر ويعطيني عوضه قمحًا؟! فلم تجد من يأخذه منها. فقالت: إذا لم تنفعني وقت الضائقة فلا حاجة لي بك، وألقته على الأرض وانصرفت. فالعجب ان ظل اللؤلؤ مرميًا على الأرض ثلاثة أيام ولميوجد من يلتقطه!!

ويروي المقريزي أن سيدة غنية من نساء القاهرة ألمها صياح أطفالها الصغار وهم يبكون من الجوع فلجأت إلى شكمجية حليها وأخذت تقلب ما فيها من مجوهرات ومصوغات ثم تتحسر لأنها تمتلك ثروة طائلة ولا تستطيع شراء رغيف واحد. فاختارت عقداً ثميناً من اللؤلؤ تزيد قيمته على ألف دينار، وخرجت تطوف أسواق القاهرة والفسطاط فلا تجد من يشتريه.

وأخيرًا استطاعت أن تقنع أحد التجار بشرائه مقابل كيس من الدقيق, واستأجرت بعض الحمالين لنقل الكيس إلى بيتها، ولكن لم تكد تخطو بضع خطوات حتى هاجمته جحافل الجياع، فاغتصبوا الدقيق، وعندئذ لم تجد مفرًا من أن تزاحمهم حتى اختطفت لنفسها حفنة من الدقيق وحزنت لما حدث من الجماهير الجائعة، فعكفت على عجن حفنة الدقيق وصنعت منها أقراصاً صغيرة وخبزتها ثم أخفتها فى طيات ثوبها، وانطلقت إلى الشارع صائحة: الجوع الجوع. الخبز الخبز. وألتفت حولها الرجال والنساء والأطفال وسارت معهم إلى قصر الخليفة المستنصر، ووقفت على مصطبة ثم أخرجت قرصاً من طيات ثوبها ولوحت به وهي تصيح: "أيها الناس، فلتعلموا أن هذه القرصة كلفتني ألف دينار، فادعوا معي لمولاي المستنصر الذي أسعد الله الناس بأيامه، وأعاد عليهم بركات حسن نظره، حتى تقومت عليَّ هذه القرصة بألف دينار!!".

وقُبض على رجل كان يقتل النساء والصبيان ويبيع لحومهم ويدفن رءوسهم وأطرافهم، فقُتل. واشتد الغلاء والوباء حتى أن أهل البيت كانوا يموتون في ليلة واحدة، وكان يموت كل يوم على الأقل ألف نفس، ثم أرتفع العدد إلى عشرة آلاف وفي يوم مات ثماني عشرة ألفًا.

وحكى أن المستنصر أخرج جميع ما في الذخائر فباعها، ويقال إنه باع في هذا الغلاء ثمانين ألف قطعة من أنواع الجوهر المثمنة وخمسة وسبعين ألف قطعة من أنواع الديباج المذهب وعشرين ألف سيف وأحد عشر ألف دار، وافتقر الخليفة المستنصر حتى لم يبق له إلا سجادة تحته وقبقاب في رجله.

وكان المستنصر في هذه الشدة يركب وحده، وكل من معه من الخواص مترجلون ليس لهم دواب يركبونها، وكانوا إذا مشوا تساقطوا في الطرقات من الجوع، وكان المستنصر يستعير من ابن هبة صاحب ديوان الإنشاء بغلته ليركبها صاحب مظلته، وآخر الأمر توجهت أم المستنصر وبناته إلى بغداد من فرط الجوع، وذلك في سنة 462هـ، وتفرق أهل مصر في البلاد وتشتتوا.

وكان المستنصر يتحمل نفقات تكفين عشرين ألفًا على حسابه، حتى فنى ثلث أهل مصر، وقيل إنه مات مليون وستمائة ألف نفس، ونزل الجند لزراعة الأرض بعد أن هلك الفلاحون.

وقال ابن دحية في كتاب النبراس: "وخرّبت القطائع التى لأحمد بن طولون في الشدة العظمى زمن الخليفة المستنصر العبيدى أيام القحط والغلاء المفرط الذي كان بالديار المصرية، وهلك من كان فيها من السكان، وكانت نيفا على مائة ألف دار". وخربت كذلك مدينة الفسطاط حتى كانت خرابًا.


المستنصر بالله بين الرخاء والشقاء

تولى المستنصر بالله مقاليد الحكم وهو منعم برخاء واسع، فكان يملك ما لا يعد ولا يحصى من الأرض، والقصور، والدور، والأحجار الكريمة، والأثواب الحريرية، والسيوف الذهبية، وفى خزانته ثلاثون مليون دينارًا من الذهب، ومما زاد فى ثراء المستنصر أنه ورث عمتيه الأميرتين، وكانت ثروتهما تقدر بخمسة ملايين من الدنانير.

ولكن لم يدم ذلك طويلاً، فقد استباح الجند ما وجدوه فى بيوت المال، ولم يبق فى الدولة مال يُرجع إليه، ولا خزينة يُعول عليها، وبلغ من شدة المستنصر، أنه اضطر إلى أن يبيع كل ما في قصره من ذخائر وثياب وأثاث وسلاح وحتى رخام قبور آبائه وأجداده، وصار یجلس في قصره علی حصیر، ویرکب وحده، وکل من معه من الخواص مترجلين ليس لهم دواب يركبونها، ولم يكن له قوت سوى ما تبعث به ابنة أحد الفقهاء، وهو مرة واحدة فى اليوم ليس إلا.

وخرج نساء قصوره يصحن: الجوع .. الجوع، وهن يردن المسير إلى العراق، فتساقطن عند باب النصر من القاهرة، ومتن جوعًا، أما والدته وبناته، فقد نجح فى إرسالهن إلى بلاد الشام، کما هاجر بعض سکان مصر، وتشتتوا في البلاد.

أما عن قبضة المنصور الخارجية، فبعد أن امتدت إلى اليمن والحجاز، إضافة إلى مصر والشام والشمال الأفريقي، ووصل امتداد سلطانه حتى تغلب العبيديون على بغداد (حاضرة الخلافة العباسية)، وخطب له، فيما يُعرف بتمرد البساسيري.

ولكن كل ذلك النفوذ لم يلبث أن يصيبه الانكماش والانحسار، فالمعز بن باديس أعلن استقلاله بالشمال الأفريقي، بل أعلن تبعية بلاده إلى المذهب السني، والبساسيري آلت حركته للفشل، وعادت بغداد لخلفاء بنى العباس، تحت سيطرة السلاجقة، الذين أخذوا يهاجمون المدن الشامية، ويضمونها تحت نفوذهم، إضافة إلى حركات آل مدراس التى بدأت تحكم بلاد الشام حكمًا لا يربطه بالمستنصر إلا خيط ضئيل، وضاعت صقلية، بعد أن استولى عليها النورمانديون عام 463هـ.

قدوم بدر الدين الجمالي

لم يكن أمام الخليفة المستنصر بالله للخروج من هذه الأزمة العاتية سوى الاستعانة بقوة عسكرية قادرة على فرض النظام، وإعادة الهدوء والاستقرار إلى الدولة التي مزقتها الفتن وثورات الجند، وإنهاء حالة الفوضى التي عمت البلاد، فاتصل ببدر الجمالي واليه على عكا سنة 466هـ، وطلب منه القدوم لإصلاح حال البلاد، فأجابه إلى ذلك، واشترط عليه أن لا يأتي إلا ومعه رجاله، ومن يختاره من عسكر الشام (أرمن)، ليستعيض بهم عن الجند الأتراك والمغاربة والسودانيين الموجودين بمصر.

وبدر الجمالي كان مملوكًا أرمينيًا للأمير جمال الدولة بن عمار، ثم أخذ يترقي في المناصب لما أظهره من كفاية في الحروب التي قامت ببلاد الشام، حتى ولي إمارة دمشق من قبل المستنصر سنة 456هـ، وحارب الأتراك في تلك البلاد ثم تقلد نيابة عكا سنة 460هـ.

كانت قوة بدر الدين الجمالي (والى عكا) آخذة فى التصاعد، فعقد المستنصر آماله عليه، وطلب منه القدوم وإنقاذ البلاد، فرحب والى عكا بهذه الدعوة، واشترط القدوم بجنده الأرمن، للاستعاضة بهم عن الجند الأتراك والمغاربة والسودان، الموجودين فى مصر، فوافق المستنصر على ذلك.

أبحر بدر الدين الجمالي من عكا، على متن مائة سفينة، ونزل فى دمياط، ثم قصد القاهرة، فاستقبله المستنصر، وأكرم وفادته، وأطلق يده فى إصلاح أحوال البلاد.

عمل بدر الدين الجمالي على تحقيق الأمن والهدوء فى العاصمة، وإعادة ما نهب من القصور العبيدية، وتخلص من القادة الأتراك، وحقق الأمن فى الوجه البحري، حيث قاتل اللواتيين، وقبائل جهينة، وأعاد نفوذ البلاد على كافة الوجه القبلي.

استطاع الجمالي أن يعيد نفوذ الخليفة على جميع بلاد الوجه القبلي حتى أسوان، وكذلك الوجه البحري، وبني جامع العطارين وأعاد الرخاء فزاد خراج مصر في سنة (457 –464) من 2.000.000 دينار إلى 3.100.000 دينار، وتوفي الجمالي سنة 487هـ وعهد لابنه الأفضل شاهنشاه.

ولم يكن للوزير بدر الجمالي أن يقوم بهذه الإصلاحات المالية والإدارية دون أن يكون مطلق اليد، مفوضا من الخليفة المستنصر، وقد استبد بدر الجمالي بالأمر دون الخليفة، وأصبحت الأمور كلها في قبضة الوزير القوي، الذي بدأ عصرا جديدا في تاريخ الدولة الفاطمية في مصر، تحكم فيه الوزراء أرباب السيوف.

التفت بدر الدين بعد ذلك إلى إصلاح الشؤون الاقتصادية، فرفع الأعباء المالية عن كاهل الفلاح، وبذلك انتظمت الزراعة، وزاد خراج البلاد، ثم أمن الموانئ المصرية، وقوى عضد الجيش، وهو الأمر الذى وضع نهاية للشدة المستنصرية.

وفاة المستنصر بالله

وظل المستنصر في عهد وزرائه كالمحجور عليه، وآلت به شدائد عظيمة، وفقد القوت فلم يقدر عليه، حتى كانت امرأة من الأشراف تتصدق عليه في كل يوم بقعب فيه فتيت، فلا يأكل سواه مرة في كل يوم، وظل كذلك إلى أن توفي في 18من ذي الحجة سنة 487هـ، ومع وفاة المستنصر بدأ العصر العبيدي (الفاطمي) الثاني حيث زادت سلطة الوزراء، وهو ما اصطلح عليه بعصر نفوذ الوزراء.

يوجد اختلاف بين المؤرخين على تحددي سنة بداية الشدة المسنصرية، وإن كانوا يتفقون على أنها استمرت سبع سنوات، فابن إياس يذكر بدايتها سنة 451هـ، وابن أيبك يذكر أنه كانت سنة 448هـ، ويذكر السيوطي أنها كانت سينة 460هـ، وأما المقريزي فيحددها بسنة 457هـ ونهايتها سنة 464هـ، وربما كان سبب هذا الاختلاف تعدد الروايات وتوالي الأزمات الاقتصادية في هذه الفترة التي تطرق إليها المؤرخون.



المصادر والمراجع:
- المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1418هـ.
- المقريزي: إغاثة الأمة بكشف الغمة، تحقيق: كرم حلمي فرحات، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، مصر، ط 1، 1427هـ - 2007م.
- ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، الناشر: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب، مصر.
- ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر – بيروت، الطبعة الأولى للجزء الخامس 1994م.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق : مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة : الثالثة 1405هـ / 1985م.
- ابن إياس: المختار من بدائع الزهور في وقائع الدهور، كتاب الشعب، مطبعة الشعب 1960م.
- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محتويات الموضوع