دم المماليك (10).. أبناء الناصر محمد بن قلاوون.. الشهواني، الطفل، والسفيه!

القاهرة – قلعة الجبل 1341م

بعد اثني وثلاثين عاما من الحكم وصداماته وقراراته الصعبة ولحظات انتصاراته وهزائمه، آن للمقاتل أخيرا أن يترجل عن عرشه.

الناصر محمد بن قلاوون يموت:

يلتف الأمراء حول السلطان الذي داهمه المرض لينتزعه من قمة قوته ويذهب به إلى حيث مصير كل البشر، يرقبون أنفاسا أخيرة يعلمون جيدا أنها ما إن تتوقف ستبدأ من جديد صراعات ومؤامرات كانت المملكة في هدنة منها طوال حكم السلطان المحتضر الذي أجاد ضبط البلاد بقبضة من فولاذ.. فولي عهده ابنه الأمير المحبوب “آنوك” مات، وباقي أبنائه بَعدُ أحداث صغار، فلم يكن له بد إلا من الوصية بولاية ابنه المنصور أبوبكر ابن العشرين والذي إن كانت له خبرات مبكرة بالحياة العسكرية في حياة أبيه، فإنه غر مغمض العينين فيما يتعلق بخبرات الأمراء بملاعيب ومعموليات ومخامرات السياسة والحكم.

يتبادلون النظرات المُختَلَسة.. هذا يرمق خصما يتربص به، ذاك ينظر بعين الريبة لحليف وصديق، آخر يرسل بعينيه رسالة خفية لمتلقٍ تكفيه ومضة عين ليدرك الكثير.

أخيرا يخرج زفير لا شهيق بعده.. تسود لحظة صمت يتبادل خلالها الجميع أسرع رسالة بالنظرات ثم بغتة يرتفع الصياح والنواح ويتسارع الخدم لتلقف من يسقطون -حقا أو تمثيلا- مغشيا عليهم، والبعض يتحمس فيخلع عمامته ويلقيها أرضا إظهارا لعظم المصاب بينما قلة رسمت على وجوهها علامات الحزن النبيل واكتفت ببضع دمعات وقورة.

اختلفت ردود الأفعال، تنوعت النوايا، تعددت الخطط، لكن الكل اتفق في استرجاع عبارة واحدة من وصية السلطان الراحل فيما يتعلق بولاية أبنائه من بعده “إذا وليتم أحدا من أبنائي ولم ترتضوا سيرته، جرّوه برِجله وأخرجوه وأقيموا غيره”

تلك العبارة كانت مفتاح اللعنة على من تولوا السلطنة من نسل الناصر محمد بن قلاوون.. فقد قالها بنيّة، وتلقاها الأمراء بنوايا أخرى لا يمكن وصفها أنها حسنة!

– المنصور أبوبكر بن محمد بن قلاوون.. قتيل ولاية العهد (1341م)

أحس حركة خافتة إلى جواره فأجفل مستيقظًا، هم بمناداة الحارس لاستطلاع الأمر، لكنه تذكر أنه منذ خلعه من السلطنة من أشهر قليلة ثم نفيه إلى قوص -بالصعيد- لم يعد ينام في قاعته بقلعة الجبل.. دقق النظر في الظلام، لا شيء.. كان يحلم إذن.. زفر بضيق، فمنذ نزوله عن العرش وانتقاله لمسكنه الحقير هذا لم يعد النوم يطيعه إلا بإلحاح وتوسل، وعليه الليلة أن يحاول الإمساك به من جديد قبل طلوع الشمس، وإلا فلا نوم إلا مع الغروب التالي.. شبح ابتسامة شهوانية مر سريعا على شفتيه وهو يتذكر كيف كان يطرد الأرق سابقًا في أيامه السلطانية الجليلة، تململ في فراشه وهو يتذكر تلك الدغدغة التي كانت تنتابه وهو يشم أنفاس حبيبه المملوك يلبغا اليحياوي.

غص بحمض تصاعد من معدته إلى حلقومه وهو يقارن بين مشهد الأمراء وهم ساجدون بين يديه يقبّلون الأرض حين توليته، ومشهد دخولهم عليه بعد أقل من سنة وإجبارهم إياه على إعلان عزل نفسه، ثم حمله مع إخواته -عدا كُجُك الذي تولى بعده- إلى منفاهم في قوص.

راجع وجوه من غدروا به: قوصون، جنكلي بن البابا، أيدغمش، طقزدُمُر.. مع استرجاع اسم هذا الأخير بالذات يحس بالرغبة في القييء حتى يتمزق جوفه.. فـ طقزدمر لم يكن نائب السلطنة ومدبرها فحسب، بل كان صهره من عدة جوانب، فابنة طقزدمر زوجته، وأختها زوجة أخيه، وطقزدمر نفسه متزوج من أمه التي كانت جارية للناصر محمد بن قلاوون، ثم أعتقها فتزوجها المذكور، وهو -طقزدمر- متزوج كذلك من الأخت غير الشقيقة للمنصور أبوبكر.. ومع ذلك فقد خامر عليه مع الأمراء، فخلعوه وجاءوا بأخيه الأصغر كُجُك -ابن خمس سنوات- ليكون ألعوبة لهم يسهل عليهم الحكم من خلفها.

امتعض وجهه وهو يتذكر مقالتهم له يوم خلعه “سلوكك لا يليق بسلطان”.. ماذا يريدون؟ ألم يبذل لهم النفقة؟ ألم يترك لهم شئون البلاد يديرونها كما يشاءون؟ فيم يضرهم شغفه بالمملوك يلبغا؟! وماذا في زواجه في ليلة واحدة من جاريتين له من أمر يسيء للتقاليد السلطانية؟! بل إنهم حين ضيّقوا عليه في أمر تقريبه أصحابه يلبغا وملكتمر وغيرهم وأمروه من خلال طقزدمر -الذي كان يعده في مكان الأب- أن يخرجهم من القلعة، فعلها وتجرع الغصة راضيا ليرضيهم.. وليته أرضاهم؟ بل إن إبعاده المماليك المقربين جعل نفوس مماليكه ومماليك أبيه تتغيّر عليه، فلم ينجده واحد منهم وقت الجَد!

“سلوكك لا يليق بسلطان”.. تمتم بها بسخرية ممتعضة من بين أسنانه مقلدا طقزدمر وهو يعبس في وجهه ويكررها مرة تلو الأخرى حتى مرّته الأخيرة وهو يعلمه خلعه.. كان كلما سمعها منه يلقي في سره سُبة مصرية مركبة ذات صلة ببعض حميميات الأم سمع بعض العوام يتبادلونها.. وهل أنا سلطان بحق لتلزمني مسلكهم؟ أم أنك تنتقي لي من مميزات السلطان ما يضيق به صدري وتتقاسم مع الأمراء منها ما تنشرح له صدوركم وتنفشخ له أساريركم؟

باغته تيار هواء بارد أخرجه من أفكاره، قام متأففا من تحت غطائه الثقيل واتجه للنافذة المفتوحة رغم أنه يتذكر جيدا إحكامه إغلاقها من قبل.. عندما أمسك بمصاريع النافذة أصابته رعدة حسبها من برودة المزلاج المعدني في يده، لكنه أدرك أنها بسبب تلك الكف الضخمة اللحيمة التي حطت على كلتا يديه لتلوي ذراعيه خلف ظهره، بينما تدس يد ثالثة خرقة عطنة الرائحة في فمه قسرا.

لم يميز ملامح تلك الظلال التي انشق عنها الظلام، فحملته مكبلا إلى فراشه وبطحته على وجهه.. حسب أولا أنهم بعض لصوص عربان الصعيد طمعوا فيما قد يحمل سلطان سابق، إلا أن الوتر الحاد الذي انغرس في عنقه أنبأه حقيقة الأمر فتشنج جسده في رقصة مقاومة يائسة لامبالٍ بتمزق جلد عنقه وانخلاع كتفه من شدة الحركة.. صعد الحمض سريعا من جوفه باتجاه فمه، لكن ذلك السكين الحاد الذي تدخّل في الصراع قطع على قيئه طريق الصعود ليتدفق مع دمه عبر عنقه المقطوع.

وفي الصباح وجد أهل البيت سلطانهم السابق جسدا بلا رأس، فالرأس حُمِلَ إلى القاهرة ليوضع بين يديّ قوصون نائب السلطان الجديد ليطمئن أن ذلك السابق لن يثير المشاكل مطالبا بالعودة للعرش، بذريعة ولاية العهد من قِبَل أبيه الراحل.. وأن الباقين سيكونون مجرد أطفال يسهل التبديل بينهم حسبما تقتضي الظروف.

……….

– الأشرف كُجُك بن محمد بن قلاوون.. جعلوه فإنجَعَل! (أواخر 1341م – أوائل 1342م)

يمكننا أن نلخص تاريخه القصير -خمسة أشهر تقريبا- في مثال قرأته قديما هو: “جعلوه فإنجَعَل”.

فقد جاءوا به طفلا في الخامسة، وضعوه على العرش وباسوا له الأرض وتولى الأمير قوصون منصب نائبه ومدبّر مملكته.

ولأن المساخر في بر مصر لا تأتي فرادَى، فإن الفتنة بين النائب قوصون وباقي الأمراء قد اشتعلت على موقف يجمع بين كونه تافها ومشينا.. فقوصون -صاحب العلاقات المتوترة أصلا بمماليك الراحل الناصر محمد بن قلاوون، كان قد استدعى يوما أحد المماليك المعروفين بالوسامة وجمال الشكل، فتمنّع المملوك أولا، ثم ذهب بعدها وبات عنده -وكل لبيب بالإشارة يفهم- وبعدها طلب مجموعة من المماليك الآخرين، فرفضوا وأعلنوا عصيانهم وتمردهم، ومعهم المماليك السلطانية، وقالوا في حقه ما يوصف بلغة المماليك -تأدبا- بأنه “ما لا يليق”.. طبعا جدير بالذكر أن نقول إن قوصون هذا هو من كان يقود حملة لوم السلطان السابق المخلوع/المقتول المنصور أبوبكر على عشقه لبعض مماليكه، بينما هو في حقيقة الأمر كان لا يقصد من لومه إلا أن يلهي السلطان ويرازيه ويضع ما فيه فيه كما يقول المثل الشهير! طبعا السبب المذكور للفتنة ما هو -غالبًا- إلا عاملا مؤديا للانفجار، لكن النار كانت بالفعل تحت الرماد لأسباب ترتبط كلها بالتنافس على الحكم.

ارسل قوصون يحذر كبار الأمراء من عواقب العصيان والتمرد، فتراجعوا بشكل تكتيكي وتوسطوا بينه وبين المماليك السلطانية، بل وارسلوا له المذكورون كما أمر، بينما اتفق المماليك السلطانية على التخلص من قوصون.. وبشكل أو بآخر علم بتدبيرهم، فاشتعلت القاهرة بالاقتتال الداخلي، خرج المماليك المتمردون وناصرتهم العامة، بينما كان مع قوصون أتباعه، بل والأمراء حتى من يرفضون سلوكه وسياسته منهم،  لكنهم لم يكونوا مهما كان لينصروا مماليك وعوام على أمير من طبقتهم.

لكن سكوت الأمراء على قوصون بلغ حد نهايته بقتله السلطان السابق وإعدامه الأمير بشتك -الذي كان قد اعتقله من قبل لإنهاء الصراع السلطوي بينهما- فانقسموا بين مؤيد له وساخط عليه، وهذه المرة رجحت كفة أعدائه، فكسروا قواته في قتال عنيف ثم اعتقلوه.

كل هذا والسلطان الطفل في ذهوله عن الأحداث التي تجري أصلا باسمه.

وكما جعلوه سلطانا، جاءوه وجعلوه مخلوعا، ثم جعلوه حبيسا في القلعة، وبعد أربعة سنوات قرر بعضهم لسبب لا يعلمه إلا الله وقاتله، أن يجعله “قتيلا”، بل وحتى لم يُعرَف كيف مات ولماذا ومن نفذ الأمر، بل ومن أصدره.. ببساطة، كان عودا أخضر هشا، وضعه القدر في طريق قطيع من الثيران المندفعة!

……….

– الناصر أحمد.. السفيه كما يجب أن يكون (1342م):

“لا يدخلن عليّ أحد إلا أصحابي، وإن أردت منكم شيئا بعثت أنا لكم فلا تكدروا صفو أوقاتي!”

لم يعتد الأمير أيدغمش مثل تلك الوقاحة في مواجهة الأمراء الكبار.

كانت الصراعات قد أسقطت سيطرة الأمير قوصون على الحكم، وتضاربت القوى مطيحة بهذا وذاك حتى صبت الأحداث في صالح أيدغمش أمير أخور (المسئول عن الخيل السلطانية) ليصبح هو الرجل الأقوى في البلاد، فقرر مع أمراء الجناحين المصري والشامي للمملكة استدعاء الناصر أحمد بن المنصور محمد بن قلاوون من منفاه بالكرك ليتولى السلطنة رغم ما في ذلك من مخالفة لوصية أبيه.. فإن كان الخيار بين طفل أو مراهق عاجز أو رجل بالغ ناضج يعاني بعض المجون، فلنأخذ أهون الضررين، لكن ما سمعه تًا من السلطان يقول بخطأ رؤيتهم.. تمتم بالترحُم على الناصر محمد، فالآن أيقن من بُعد نظره حين أقصى سييء الأدب هذا عن ولاية العهد.. لم يعمل خاطرا لأن أكبر الأمراء ركبوا ليذهبوا إليه في الكرك ويحضروه، فأرسل يأمرهم بالمكوث في غزة وانتظاره دون أن يكلف نفسه عناء إبلاغهم موعد وصوله.. ثم باغت الجميع بدخوله القاهرة ليلا مع زمرة من أوباش الكرك الذين اعتاد قضاء أوقات مجونه معهم هناك، بل لم يتجشم عناء الجلوس مع أمرائه وتحيتهم، فقابلهم بفتور وقال لهم بنبرة المتفضِل المتأفف إنه لم يطلب السلطنة وكان مستريحا من عنائها، لكنه جاء فقط لإلحاحهم عليه! ثم أولاهم ظهره واصطحب رفاق عربدته إلى جناحه الخاص وأغلقه عليه، ولم يره أحد، بل إنه حتى لم يخرج لصلاة العيد التي صادف وصوله القاهرة الليلة السابقة لها!

دخل إلى قاعة الحكم وهو يتحاشى نظرات الأمراء حرجا، تقدم منه الأمير قطلوبغا الفخري ووضع يده على كتفه بحزم سائلا: “هل فعل ما توقعت؟” أزاح أيدغمش يده وجلس زافرا بحنق، فصاح قطلوبغا بالأمراء: “قلتها لكم! لقد أهنّا أنفسنا وحططنا من شأن السلطنة حين جئنا بسفيه متهتك لهذا الكرسي!”

تدخَل الأمير طشتمر الشهير بـ “حمص أخضر”، فقال محاولا تهدئة غضبه رفيقه: “الفتى بعد غر قليل الخبرة، ونحن حوله نصلح إن شاء الله”.

أطلق قطلوبغا نخرة استنكار وصاح به: “الفتى؟! هذا البغل.. فتى؟! بالله ألم ترى مشيته كالغواني وتراخي أطرافه ونظرة الفتور في عينيه؟! هذا سلطان المسلمين؟!”

هم طشتمر بالإجابة، فأشار له أيدغمش بالانتظار، وقال هو لقطلوبغا: “أمير قطلوبغا، البديل الوحيد هو طفل ساذج يتصارع الأمراء على من يركبه!” هم بعض الجلوس بالاعتراض استنكارا لقوله، فأوقفهم بإشارة من يده مردفا بصرامة أكبر: “يا أمراء.. دعونا لا نخدع أنفسنا.. أنتم تعلمون أن هذا هو ما يحدث دائمًا!”.. التفت لطشتمر وقال: “وأنت أمير طشتمر، ما دمت تراهن على صلاح حاله، فلتقم أنت لذلك!”

تساءل طشتمر: “كيف؟”

تحسس أيدغمش كلماته وهو يقول: “أنت تعمل نائبا للسلطان، وتدبر معه الدولة وتكون رأس مشورته.. وأنا وباقي الأمراء نتوزع في أعمال خارج القاهرة”

ابتسم طشتمر بفهم “تريد تورطني أنا يا أمير أيدغمش؟

– “لا أورطك ولا تورطني.. أنت تثق بقدرتك على إصلاحه، أرنا همتك، فإن نجحت شكرنا لك ذلك وإن أخفقت كفينا شر ما هو آت واستطعنا التدبير لإنقاذ المملكة”

……….

هذه المرة كان أيدغمش بعيد النظر، فالاقتراب من سفيه صاحب سلطان -ولو على صفة الصداقة- هو كالاقتراب من أعمى أرعن يحمل نارا يرقص بها.. نفس المخاطرة.

وقد أصابت النار طشتمر بالفعل، فالسلطان سخط من محاولاته إخراجه من انغماسه في التهتك والعربدة ومنعه من مخالطة رفاقه الكركيين الذين لا ينبسط وينشرح إلا معهم.. فدبر السلطان خلع طشتمر من نيابته، واعتقله، بل وطالت ناره من انتبذوا لأنفسهم مكانا قصيا عنه، فاعتقل الأمير قطلوبغا رأس معارضيه وأرسله إلى سجن الكرك مع طشتمر.

وقبل أن يفيق الأمراء من هذه الصدمة، باغتهم السلطان السفيه بأخرى أشد، فقد حمل خزائن السلطنة والخيل السلطانية وثروات القصر وحتى مجوهرات جواري أبيه، وأخذ الخليفة العباسي وبعض المماليك ورجال الحكم وتوجه بهم جميعا للإقامة بالكرك.. وهناك سار على نفس سياسة اعتزاله الجميع إلا رفقته الفاسدة.

عبثا حاول الأمراء مراسلته وحثه على العودة للقاهرة، فلم يزد على أن قال في رده: “أنا السلطان أمكث حيث شئت من المملكة!”

وكأنه لا يخرج من حماقة إلا لأخرى، فيوما ما بوغت الأمراء في القاهرة بالخبر القادم من الكرك أن السلطان قد قتل كلا من طشتمر وقطلوبغا.. هنا تفجر غضب الأمراء وأعلنوا خلع السلطان، وأقاموا مكانه أخيه إسماعيل الملقب بالصالح.. وأرسل السلطان الجديد يطلب من أخيه أن يعيد ما نهب من ثروات وخزائن، فرفض هذا الأخير، فاضطر السلطان وأمراؤه لإرسال تجريدات حربية لاعتقاله وإحضار الخزائن، فتحصن بالكرك وتزوّد بالمؤن والاستعدادات.

وطوال سنتين كانت التجاريد تروح إلى الكرك وترجع خائبة.. حتى فوجيء السلطان المخلوع بنفاد أمواله بين تحصيناته المبالغ فيها وحفلات مجونه باهظة التكاليف.. فانفض عنه رفاقه، وكان أهل الكرك قد ضاقوا بسلوكه فراسلوا قلعة الجبل لتخليصهم منه، فاستجاب السلطان وأمرائه بإرسال حملة جديدة باغتت أخيه العاجز هذه المرة عن التصدي لها.

وهكذا تكالبت ثمار حماقات وسفاهة الناصر أحمد عليه، وسرقه السكين لينتقل سريعا من سلطان متوج، لمخلوع متحصن، لسجين مقيد، ثم لجسد ملقى بلا رأس، ورأس محمول إلى القاهرة ليوضع بين يديّ أخيه السلطان إسماعيل.

……….

نعمت المملكة بفترة هدنة من الاستقرار النسبي لمدة ثلاث سنوات هي مدة حكم السلطان إسماعيل الملقب بالصالح، رغم معاناته من مرض الصرع المزمن، وتعرضه لمحاولة انقلابية من أخيه رمضان، ومرور الدولة بأزمة اقتصادية عابرة، وتعرض العلاقة بين الأمراء الكبار للتوتر مما دفعهم -كالعادة للصدام- لكن رغم ذلك، فإن الدولة بقيت في حالة استقرار قياسا بما سبق من اشتعال للأحداث، خاصة أن السلطان كان من متجنبي المشاكل.. متدين هاديء الطباع، ولم ينتقص منه شغفه بالجواري بالذات عوادة سوداء اسمها “اتفاق”.. مرت إذن ثلاث سنوات مسالِمة.

لكنها كما قلنا كانت مجرد هدنة، فبموت السلطان إسماعيل سنة 1345م وتولي أخيه الكامل شعبان الحكم، عادت ساقية الدم للدوران بجنون.

(يتبع)

محتويات الموضوع