دم المماليك (12).. أبناء الناصر محمد بن قلاوون.. المنحوس والسكير

– الأشرف شعبان بن الأمجد حسين بن الناصر محمد بن قلاوون (1363م-1377م)

الإسكندرية – أكتوبر 1365م

كتم ذلك الشيخ أنفاسه وهو ينكمش في مخبأه مسترقا النظر برعب لبعض فرسان الفرنجة وهم يعبثون بجثة فتى حاول مهاجمتهم بسكين فتناوشته سيوفهم ليهوي جثة ممزقة.. تمنى لو فقد حاسة الشم كي لا تصل إليه رائحة هي مزيج من الحجارة المحترقة والدم المشوي على جثث أصحابه حملتها إليه الرياح الآتية من المدينة المدمرة.. نظر نحو الأفق لأعمدة الدخان وألسنة اللهب متمتما لنفسه بغير تصديق “الإسكندرية تحترق!”

فمنذ أيام قليلة داهمت المدينة حملة من أكثر من 150 سفينة حربية على متنها فرسان من مختلف أنحاء أوروبا بقيادة بطرس لويزنيان ملك قبرص، فاحتاحوا القوات الهزيلة التي تصدت للدفاع عن المدينة ودهموا بيوتها وشوارعها ومساجدها وحتى كنائسها ممارسين السلب والنهب والاغتصاب والقتل في أرجاءها.

يشير الجميع بأصابع الاتهام بالحماقة والرعونة لقائد الحامية المملوكية الذي أصر على التصدي للغزاة خارج أسوار المدينة رغم ارتفاع أصوات العقلاء الذين نصحوه بالتحصن خلف الأسوار ومراسلة القاهرة طلبا للمدد، لكنه ركب رأسه وأخذ يردد كلاما محفوظا عن الجهاد وملاقاة العدو والجنة التي تحت ظلال السيوف، فلم ينفعه الحماس الغبي فيما كان يقتضي التخطيط الحكيم.. ودفع الأهالي الثمن من دمائهم وهم يستغيثون بالله ومن بعده بالسلطان.

والسلطان..أين السلطان؟

السلطان صبي في الحادية عشر من عمره محجور عليه من مدبر المملكة يلبغا العمري، الذي جاء به ووضعه على العرش بعد أن خلع المنصور محمد بن المظفر حاجي، الذي تسلطن لفترة قصيرة بعد قتل يبلغا للسلطان حسن.

ويلبغا هذا هو من المسئولين عن كارثة الإسكندرية، فقد بلغته أخبار الحملة القبرصية قبل وصولها للمدينة لكنه تهاون في أمرها وانهمك في صراعاته مع الأمراء وتدابيره للحجر على السلطان.

أخيرا قرر يلبغا التعامل مع الكارثة بتجهيز حملة لإنقاذ المدينة، لكن الغزاة فروا قبل وصولها لاختلاف قياداتهم وإدراكهم أنهم لن يستطيعوا التصدي للقوة المملوكية القادمة من القاهرة، فرحلوا عن الإسكندرية بعد أن كبدوا أهلها عشرين ألف شهيدا كما تقول بعض المصادر.

حاول يلبغا أن يحفظ ماء وجهه، فبدأ في الإعداد لحملة انتقامية، وأمر ببناء السفن لها، لكن شاء القدر أن يشهد عهد الأشرف شعبان موجة النحس التالية بقيام فتنة بين مماليك يلبغا، وتمردهم عليه، ومحاصرتهم له في جزيرة أروى (الزمالك حاليا) في نيل القاهرة، فشك يلبغا في أن للسلطان علاقة بذلك فأعلن خلعه وتولية أخيه أنوك، لكنه فشل في تنفيذ ذلك، فاضطر للهرب إلى دار له بمنطقة الكبش (قلعة الكبش حاليا) وهناك داهمه مماليكه وقتلوه ليلقى نفس مصير الراحل السلطان حسن حين قتله وهو مملوكه.

بعد قتل يبلغا دخل العامة في الفتنة فاستغلها بعضهم وقاموا بمهاجمة بيوت بعض الأمراء ونهبها بحجة أنهم كانوا من أنصار يلبغا، وأثار مماليك هذا الأخير المشاكل وقد أغراهم انتصارهم على سيدهم أن يخلعوا السلطان، فصار الانفلات الأمني هو سيد الموقف حتى تدخل السلطان بشخصه واستعان بمماليكه وأجبروا المخربين على الكف عن فسادهم وأقروا الأمن في القاهرة.. واستقل السلطان بالحكم خارجا عن الوصاية، وأصبح زوج أمه الأمير الجاي اليوسفي أتابكا للعسكر.

ولا يكاد السلطان يلتقط أنفاسه من النوازل والكوارث حتى تندلع الفتنة من جديد، فبعد وفاة أمه نشب خلاف بينه وبين زوجها الجاي اليوسفي على ميراثها، تطور لأن حاول الجاي خلع السلطان لكنه هزم وغرق في النيل أثناء محاولته الفرار.

وكأن القدر أراد تخفيف وطأة المحن عن السلطان، فأخيرا بلغه خبر مفرح هو تمكن جيشه من إسقاط دولة أعدائه الأرمن في بلاد الأناضول، وضمها للسلطنة.. لكن المصائب لم تشأ تركه ينعم بانتصاره فباغتت مصر مجاعة طاحنة تزامنت مع هجمة ضارية للوباء، وجاء ارتفاع الأسعار ليضفي على الصورة مزيدا من القتامة.

بل ومرض السلطان نفسه حتى أوشك على الموت.. ثم أخيرا تعافى.. وقرر الخروج للحج.

وهنا عاش السلطان الأشرف شعبان محنته الأخيرة، فعند وصول ركبه المتجه للحجاز إلى العقبة تذرع الأمراء المصاحبون له بتأخره في توزيع طعام خيولهم وتأخير نفقتهم عليهم، فثاروا عليه ورفعوا عليه السلاح وحاولوا قتله، ولم يفلت منهم إلا بعناء.. وفر إلى القاهرة.

لكن في القاهرة كانت تنتظره مفاجأة مزعجة، فقد تآمر الأمراء ممن لم يسافروا معه وقرروا خلعه، بل وأعلنوا أنه مات وأنهم ولوا مكانه ابنه علي الطفل ذو السبعة أعوام، فاضطر شعبان حين وصوله القاهرة للاختباء في بعض بيوتها.. لكن مرة أخرى يخونه حظه فيستدل المتآمرون عليه ويعتقلونه.

وفي محبسه يذيقونه العذاب ليعترف بمخابيء ثرواته حتى يقر لهم بها.. هنا يظهر الوتر الرفيع الحاد، ويلتف على عنقه فيخمد أنفاسه وينهي أربع عشرة عاما من المعاناة مع الكوارث والمصائب.. ويموت السلطان المنحوس في سن الرابعة والعشرين من عمره.

وبعدها بأيام.. يعثر بعض خدم القلعة  قرب مشهد السيدة نفيسة على قفة تفوح منها رائحة العفن فيفتحونها ليجدوا بها جثة شاب عليه آثار التعذيب وقد رسم وتر الخنق على عنقه خطا عميقا وانكسر ظهره عند محاولة حشر جثته في القفة، فيخرجون الجثمان وينظرون لوجهه ليتعرفوا فيه سلطانهم المقتول.. فيدفنونه.

– الصالح حاجي.. السلطان السكير(1381م-1382م) و(1389م -1390م):

في القلعة، يبوس الأمراء الأرض للسلطان الطفل المنصور علي ابن السلطان المقتول شعبان، ليقضي الفترة بين عامي 1377م و1381م ألعوبة في يد الأمراء المتصارعين، ثم يمرض ويموت دون سن الثانية عشر، ليعقبه أخوه الصالح حاجي الذي يصغره بثلاثة أعوام.

في هذا الوقت، كان نجم الأمير برقوق -أحد الأمراء الجراكسة- يلمع، وكان هذا الأخير داهية يجيد ضرب خصومه بعضهم ببعض حتى يفنيهم إلى أن ينفرد بآخرهم فيسهل الإيقاع به.. وهكذا بقي برقوق يتقرب للعامة تارة، ويتآمر على الأمراء تارات، حتى خلا له الجو، فأعلن خلع السلطان الطفل وتوليه هو السلطنة، بحجة أن الحكم يعوزه رجل بالغ ناضج. وبالفعل يتسلطن برقوق منهيا عصر المماليك الترك -العصر المملوكي الأول- ومفتتحا عصر المماليك الجراكسة- العصر المملوكي الثاني.

ويستمر برقوق في الحكم لستة أعوام، ثم يتعرض حكمه لهزة عنيفة تطيح به فيفر من القلعة ثم يقبض عليه ويحبس بالشام، ويعيد المتآمرون السلطان المخلوع حاجي للعرش ويحلفون له، وكالعادة يضرب الأمراء الأوصياء على السلطان بعضهم بعضا حتى يتمكن أحدهم وهو الأمير منطاش من تسيد الموقف والقبض على السلطة، ويرسل أمرا لحاكم الكرك -محبس برقوق- بقتله كي لا يحاول العودة للحكم، لكن أهل الكرك يقتلون الرسول، ويحرر حاكمها برقوق الذي يتوافد عليه مؤيدوه من الذين ضجوا من تردي الأحوال في المملكة وكثرة فتن الأمراء، ويزحف برقوق بجيشه ويعيد انتزاع الحكم.. وتبدأ سلطنته الثانية.

لكن برقوق على خلاف المعتاد مع السلاطين المخلوعين لا يقتل السلطان المخلوع حاجي، بل يسكنه معززا مكرما بدار بالقلعة، ويجعله صديقا ونديما له، ويجزل عليه العطاء، بل ويتحمل من حاجي نوبات سكره الشديد وتطاوله المتكرر عليه خلالها.

لكن حاجي يتحول لكارثة على من حوله، فقد أصبح سكيرا من النوع العنيف الذي ما إن يسكر حتى ينتابه جنون فينهال على من حوله ضربا.. وتتكرر شكوى خدمه وجواريه أنه يضربهم بوحشية، ويتجاوز الأمر الحد لدرجة أن السلطان برقوق كان يصله صوت صريخ الجواري وهن يضربن، فكان يرسل للمخلوع من يتلطف معه ويبلغه شفاعة السلطان في المضروب ليكف عنه، فيضطر حاجي لأن يأمر عند ضربه جواريه بأن تعزف الموسيقى بأصوات عالية كي لا يصل صوت الصراخ للسلطان، فيعرف السلطان ذلك حتى يعتاد عند سماع الموسيقى العالية أن يرسل من جديد يستعطف حاجي على ضحيته.

وكأن القدر يأبى إلا أن تنتهي سلالة آل قلاوون الحاكمة بمأساوية، فيصاب حاجي بالشلل ثم يموت يوما، وتتناثر الشائعات والشبهات حول موته في الأربعينات من عمره، وتتناقل الألسنة والآذان أن بعض جواريه دسسن له السم في شرابه ليسترحن من جنونه ووحشيته في نوبات سكره الكثيرة، وسرعان ما تسكت الشائعات في اتفاق ضمني على طي هذه الصفحة المأسوية، سواء صفحة حاجي، أو صفحة أبناء الناصر محمد بن قلاوون.

ويسلم عصر مماليك الترك الراية لعصر مماليك الجركس، لكن خيط الدم يستمر غير عابيء بهذه الفروق العرقية.

(يتبع)

محتويات الموضوع