دم المماليك (11).. أبناء الناصر محمد بن قلاوون.. المتهتك.. السفاح.. المتمرد

– الكامل شعبان.. عار السلاطين (أواخر 1345م إلى 1346م)

القاهرة- الجزيرة الوسطى (الزمالك حاليا) – 1345م

جفل الخادم من تلك اليد الأنثوية التي جذبته بغتة لداخل ذلك الخُص (الكشك)، فكاد يقع على وجهه لولا أن أسندته صاحبة اليد التي بدت مهنتها ونيتها من زيها وزينتها والحركة الشهوانية لشدقيها وهي ترمقه من أعلى إلى أسفل وبالعكس.. دفعها وانطلق مغادرا المكان وهو يبحث بعينيه عن خيمة السلطان الكامل شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون.. أخيرا بلغها فانحنى مقبلًا الأرض ثم اعتدل وقدم له الرسالة رامقا بطرف عينه زمرة الحرافيش والسوقة المحيطة به.. فمنذ توليه السلطنة فارق السلطان الذي لم يكد يغادر مرحلة المراهقة أصول الجلوس والتحركات السلطانية، فأحاط نفسه بالحرافيش والغاغة بالذات من كانوا منهم من يمارسون المعالجة والتلبيخ (المعالجة هي رفع الأثقال والتلبيخ هو القتال بالنبابيت وكانتا تمارسان من الفئات المتدنية وقد يقع في التلبيخ ضحايا).

قرأ السلطان الرسالة ثم رفع رأسه للخادم الذي خفض عينيه تأدبا في ترقب حذر.. أشار له السلطان أن يقترب بينما هو يتناول كأس خمر من جواره.. لف الرسالة وغطس طرفها في كأسه ثم رفعها فوق فمه وعصرها لتسقط قطرات الخمر على لسانه.. ضج الحضور بالضحك ومعهم الكامل شعبان الذي أعاد كأسه لمكانها وألقى الرقعة جانبا ثم قال بلهجة غاضبة مفاجئة: “أحيانا أكاد أن أنسى من منا السلطان؟ أنا أم الأمير أرغون؟ هل حسب أن كونه زوج أمي يعطيه الحق أن يراجعني فيما أفعل؟”

استرجع شعبان الموقف وهو راكب فرسه إلى جوار الأمير أرغون العلائي، زوج أمه ورأس مشورته ومدبر مملكته، وهما يستعدان للمواجهة المسلحة مع الأمراء المتمردين على السلطان.. أرغون مخلص جدا.. فرغم إخفاقه في إصلاح السلطان المتهتك ورده عن انحلاله إلا أنه لم يتبرأ منه أو يتركه حتى وهما مقبلان على مواجهة معروفة نتيجتها مسبقا، فالثورة على السلطان المتهافت على عربدته قد حاصرته من كل مكان.

فالكامل كان النقيض تماما للقبه الملكي.. فمنذ أيامه الأولى في السلطنة فاحت رائحة انحلاله، فقد كان يحمل حريمه وجواريه ورفاقه من السوقة وأرباب الغرز والمحاشيش إلى بلدة سرياقوس التي اتخذها منتجعا له، فيقضون أياما بين سُكر وانسطال وعربدة يطلق خلالها العنان لهم في انتهاك حرمات أهل البلدة والعبث بأموالهم وأعراضهم إلى حد اغتصاب حريمهم.. وكان يستدعي إلى حضرته حاملي الأثقال والمتضاربين بالنبابيت واللاعبين بالحمام لينشرح معهم ويرفعون الكلفة.

ويبدو أن انحلال السلطان وتهتكه لم يكن مجرد سلوك شخصي بل كان فلسفة حياة، فقد قرر أن يفتح الباب على مصراعيه لنمط حياته فأقام بالجزيرة الوسطى بنيل القاهرة أكشاكا خصصها كحانات وبيوت للدعارة.. أي أنه كان يمارس مهنة “التعريص” -المذكورة باللفظ في كتب مؤرخي هذا العصر- لكن بشكل رسمي سلطاني! ومرة ثانية يتدخل أرغون العلائي فيداهم الجزيرة بجنوده ويحرق الأكشاك ويعاقب أهل الرقاعة المقيمين بها.

ولأن الفاصل بين السلوك الشخصي لصاحب السلطة وسلوكه الإداري خيط رفيع، فقد انتقلت عدوى الفساد من شخص السلطان لسياساته، فبينما كان الجفاء بين الكامل شعبان وأمرائه هو سيد الموقف لرفضهم سلوكه، ربطته علاقة صداقة قوية بأمير يُدعى شجاع الدين غرلو كان بمثابة كارثة على الدولة، فقد تدرج -بفضل علاقته بالسلطان- في المناصب، وأحدث سُنة ملعونة في النظام المملوكي وهي أن يُفرَض على من يطلب تولي وظيفة رسمية أن يدفع مبلغا لبيت المال يسمى “البرطيل”.. أي أنها رشوة لكنها -كالتعريص سالف الذكر- رسمية وقانونية!

لم يكن من الغريب إذن أن ينفد صبر الأمراء على سلطانهم كارثي السلوك والسياسات، خاصة مع بطشه ببعض من يعارضونه منهم، فانتفض عليه أمراء الشام وأرسلوا له إنذارا أخيرا، فأشار عليه الأمير أرغون بإرسال حملة للشام للتصدي لهم.. وقبل أن يفيق من صدمة انتفاضة الشام، فوجيء ببعض أمراء مصر يخرجون عليه، فأشار عليه أرغون بالمواجهة أيضا.

تواجه الفريقان خارج القاهرة، وسرعان ما بدأ أتباع الكامل شعبان يتسربون من حوله، نظر حوله غير مصدق.. حتى من كانوا يتملقونه ويشاركونه شرب الراح والعربدة في الليالي الملاح باعوه لعدوه.. حتى صديقه وصنيعته الأمير غرلو تركه وانضم للمنقلبين عليه.

لم يبق معه سوى زوج أمه أرغون العلائي الذي أعيته الحيل في إصلاحه.. هو وحده رفض تسليمه، قاتل عنه حتى أصيب.. أدرك الكامل أنه إن أُدرِك قُتِل، أضاف لكونه فاسدا منحلًا صفة جديدة هي كونه نذلا، فقد ترك مشيره المخلص مصابا وفر من أرض المعركة.. تذكّر وهو يتشبث بعنان فرسه يوم ركوبه لموكب السلطنة عندما جفل تحته الفرس وكاد أن يوقعه فتحدثت العامة بأنه لن يعمّر في السلطنة.

ولأن حياة يعيّر بها صاحبها كحياته لا تنقصها سوى نهاية لا تقل عارا، فإنه عند سقوط القلعة والتفتيش عنه وُجِدَ سلطان البرين وملك البحرين الملك الكامل شعبان سلطان المسلمين مختبئا عند أمه، وعندما حوصر عندها هرب، وكأنما خشي أن يموت قبل أن يرتكب بعض موبقاته فقد حاول أثناء هربه قتل أخويه خشية تولي أحدهما الحكم بعده، لكنه فشل واعتُقِلَ في إحدى قاعات القلعة.. ثم أرسل له الأمراء من قتله ودفنه لينهي تلك القصة المشينة في تاريخ السلاطين.

……….

– المظفر حاجي بن الناصر محمد بن قلاوون.. سفاح الأمراء (1346م-1347):

توقف الرَكب الصغير فهبط الأمير بيبغا أروس عن فرسه وجذب سجينه المقيّد المُلقى على صهوة جواد كجوال ممتليء وألقاه أرضا.. رفع الغطاء عن رأسه فبدا وجه المظفر حاجي بن الناصر محمد بن قلاوون وقد كُمِمَ فمه.

“هيا.. إعمل شغلك” قالها الأمير لرفيقهما الثالث وهو أحد الجند، فأخرج هذا الأخير سكينه وجذب حاجي ذو الستة عشر عاما من شعره ساحلًا إياه منه على الأرض الصخرية القاسية.. لم يذبحه فورا وإنما أخذ يمس عنق الفتى بالسكين وقد بدا عليه الاستمتاع بعلامات العجز في عيني ضحيته.. لاحظ بيبغا ذلك فاقترب من الجندي سائلا إياه ببساطة: “أيهم كان أستاذك؟”

نظرة التشفي في عيني الرجل استحالت لحقد وهو يرمق المظفر حاجي قائلًا “يلبغا اليحياوي” أطلق بيبغا صفير تعجب وانحنى نحو السجين قائلًا: “يا الله! من بين كل من قتلتهم من الأمراء وقع نصيبك عند الذبح في مملوك لأكثر أمير أثار قتلك غضب المماليك له”، جلس أرضا بجوار حاجي الذي حاول تصويب نظرة تحدٍ له.. مال نحوه وقال “كيف وصلت لهذا؟ ما الذي كان ينقصك؟ سلطان شاب.. قوة وعنفوان، رجال يعرفون الجميل لأبيك الناصر رحمه الله.. لِمَ لم تستغل ذلك لصالحك؟”

لا يدري هل كان المظفر حاجي يرتعد بردا أم خوفا.. لكن هذا الأخير كان يستمع في عجز لبيبغا أروس بينما تمرق في رأسه مشاهد متفرقة.

الأمراء يخرجونه من جناحه بالقلعة، يجلسونه على الكرسي ويبوسون الأرض له.. الأمير أرقطاي يعيَّن نائبًا له.. تجري مراسم ترقية ثمانية عشر أميرا.. يلفت نظره أحدهم، له ملامح جميلة تأسر القلب… طنيرق اسمه.. يعينه أمير مئة دفعة واحدة.. ويصبح من خاصكيته (أمرائه المقربين) في طريقه عائدا للقلعة يفكر، ما زال شابا على تحمل أعباء الحكم الثقيلة على النفس، عليه إذن ألا يُحرَم ملذات الشباب.

يرسل للعوادة اتفاق التي كان قد امتلكها السلطان الراحل إسماعيل وورثها المقتول شعبان ثم انتقلت له بعد سلطنته.. كان قد اضطر في أول أيام سلطنته لمصادرة أموالها وطردها من القلعة ثم عاد ليحضرها، بل وتزوجها سرا بعد أيام من عقده قرانه على ابنة أحد الأمراء.. بقي ينفق أيامه مع جاريته بين فراش عشق وكأس خمر ووتر عود، ولم يقف لهوه عند جناح الحريم، بل تعداه لما هو أفحش، فقد أحضر الحرافيش من محترفي المصارعة إلى داخل القلعة وبقي يقضي اليوم في مشاهدتهم بل وكان أحيانا يتجرد من ثيابه ويرتدي سراويلهم القصيرة ويشاركهم اللعب، ثم بدا له أن يضيف لأسباب لهوه اللعب بالحمام، فبنى بالقلعة بيوتا باهظة الثمن من خشب الصندل المطعم بالذهب.. وهكذا بقي يخوض في لهوه وعبثه حتى بدأ الأمراء يواجهونه باعتراضهم على سلوكه.

ولأن لوم الأمراء كان شديدا فقد اضطر مرة أخرى لإبعاد إتفاق.. ومفارقة حرافيشه، وكسر بيوت الحمام بل وذبحه.. لكنه بدأ يبحث عمن يتقرب إليه من الأمراء، فلم يجد إلا شجاع الدين غرلو صاحب الولاء المطاطي. وغرلو عنكبوت سام، أحاط المظفر حاجي بخيوطه ليضرب به الأمراء ويصفو له الجو.. بقي يوسوس للسلطان بأن عليه أن يكون أكثر حزما مع الأمراء بل ودموية لو لزم الأمر.. فهو السلطان، وهم عبيده، وما للعبد إذا تنمر إلا السوط أو السيف.

كانت البداية جريمة قتل مما يمني مرتكبها نفسه أنها حالة استثنائية للضرورة ثم ينصلح بعدها حاله.. قام باستدراج الأميران أقسنقر وملكتمر للقلعة وباغتهما بالقتل.. في البدء كان الأمر ثقيلا على نفسه إلا أنه في نفس الوقت أورثه شعورا بالقوة.. تشجع وقبض على بعض الأمراء الآخرين، “لا قتل هذه المرة يا غرلو”.. هكذا قال.. “أمر سلطان المسلمين” هكذا قال غرلو وهو يبتسم في باطنه، لكن الضرورات يا مولاي.. والأمير يلبغا اليحياوي أمير الشام يخامر عليك منذ زمن.. وأمراء الشام يسبحون في تياره..  ما العمل إذن يا غرلو؟ بسيطة.

يتلقى الأمير يلبغا اليحياوي رسالة من السلطان تأمره بالعودة للقاهرة ليعينه رأس مشورته.. ينفذ يلبغا الأمر ويتحرك نحو مصر على أمل أن يكون بيده إصلاح الأمور دون دماء، وفي الطريق يفاجأ يلبغا بكمين ينتظره وقبل أن يسارع بالفرار يكون السيف قد سبقه إلى روحه.

ليس الأمر -القتل- بهذه الصعوبة، أو لم يعد كذلك، فالسلطان يتشجع ويأمر بقتل الأمراء الذين كان قد اعتقلهم.. ويبلغ عدد من قتل من أمراء أبيه نحو اثنا عشر أميرا من المقَدَمين.. كل هذا بمساعدة غرلو.. ثم ينتقل هذا الأخير للمرحلة الثانية في خطته فيوقع بين السلطان ونائبه أرقطاي، وينجح في إقناع سلطانه بتعيينه “أمير سلاح” (المسئول عن الأسلحة السلطانية)، ولأن غرلو جركسي فإنه يقرب بني جنسه ليضمن لنفسه السيطرة من خلال الولاء للعِرق.. ويظن المملوك أنه قد حاز الدنيا، إلا أن مماليك السلطان -وعلى رأسهم طنيرق سالف الذكر ومملوك آخر اسمه ألجيبغا- الذين أغضبهم إقصاءه لهم وتقريبه غرلو يدبرون للإيقاع بينه والسلطان، ويتهمونه في ولائه، ثم يباغتونه باعتقاله ثم قتله بحجة الشك في مخامرته على السلطان، ويعرف هذا الأخير ويشتعل غضبا لكنه يكتم غضبه في نفسه متربصا بهم.

ويحن السلطان لأيام لهوه وعبثه، فيستغل خروج الأمراء للصيد في مختلف نواحي مصر فيعيد سيرة الحمام والمصارعة ومصاحبة الحرافيش بل ولعب القمار، ويضم لحريمه هذه المرة جارية اسمها كيدا فأخذ يغدق عليها من الأموال بل وبلغ به العبث حد أن كان يقذف الذهب والجواهر في الهواء ويضحك وهو يتسلى بمشاهدة الخدم والعبيد يتسابقون لنيلها.

ويعود الأمراء الكبار من الصيد ليفاجئوا بالكارثة، فيعنفون السلطان الذي يدرك أنهم قد عرفوا بسلوكه من أمرائه الخاصكية خاصة طنيرق وألجيبغا فيقرر التخلص منهم، إلا أنهم يعرفون بتدبيره فيتصلون بالأمراء المشتعلين غضبا على السلطان ويتفقون جميعا على خلعه.

……….                                          

“كان عليك أن تدرك أن المواجهة الأخيرة لن تكون لك بل عليك.. قل لي من كان معك؟ أمراء أبيك ساخطون عليك لقتلك أقرانهم ولانغماسك في المساخر، خاصكيتك تبغضك لتربصك بها، أمراء الشام لهم زمن قد خلعوا طاعتك.. كان عليك أن ترى ذلك القادم نحوك من قبل حتى أن يتسرب أعوانك عنك في المعركة الأخيرة وينضموا لخصومك حتى وقعت في الأسر”

قام عنه وأشار للجندي المتململ بالانتظار لنيل ثأره، أولاهما ظهره مداعبا عنق جواده، وابتسم بارتياح وهو يسمع همهمة مستميتة ثم صوت النصل الحاد وهو يمزق العنق ويشقه كاسرا عظام الرقبة لمن كان بالأمس سلطان البلاد.

……….

– الناصر حسن.. السلطان المتمرد (1347م-1351م) ثم (1354م-1361م):

هل كانوا يتوقعون أن ذلك الطفل ذو السنوات التسع سيكون صداعا لرؤوسهم؟

من البداية اختاروه طفلا ليكون قطعة صلصال طيّعة أو دمية سهلة التوجيه.. قرروا منعا للتصارع أن يشكلوا مجلسا للمشورة يشرف عليه -أو بمعنى أدق يحجر عليه- حتى يبلغ سن الرشد.. بقي أرقطاي -نائب السلطان السابق- في منصبه ثم حل محله بيبغا أروس سالف الذكر.

من البداية فرضوا عليه حصارا شديدا، فكانوا يراقبون كل تحركاته ونفقاته، لكن باغتهم الخطر من حيث لا يحتسبوا.. هذه المرة من الخارج.

بدأ الأمر بأنباء عن مرض ينتشر في الدول المجاورة.. يضعف المرء وتضطرب أعضاؤه ثم يصرخ ويقذف الدم من فمه، وفورا يموت.. وقبل أن يستوثقوا من صحة الخبر وجه المرض ضربته لمصر لتنضم للدول ضحية ذلك الوباء الشهير المعروف تاريخيا بـ”الموت الأسود”.

بدأ الأمر في الإسكندرية، ثم البحيرة والدلتا، ثم وصل إلى القاهرة واكتسح أمامه مدن الوجه القبلي وصولا لأسوان التي كانت الأقل تضررا منه.. الفوضى والرعب ضربا بأطنابهما، الناس محاصرون بالموت من كل اتجاه، القضاة يشكون من فوضى في المواريث بسبب أن كلا من المورِث والوريث ووريث الوريث ووريث وريث الوريث وما بعدهم قد يفنون في أسبوع واحد فلا يجد المال من يرثه.. الجثث تتراكم في الشوارع بغير دفن فقد مات المغسلون وحاملو النعوش واللحادون.. يسارع الأمراء لفتح أماكن للتغسيل والتكفين ودفن الموتي.. يضج الشيوخ بالدعاء في صلوات انعدمت صفوفها لموت المصلين.. الجنازة تخرج وراء الميت ثم تعود وقد مات بعض المشيعون.. مسجد في القاهرة يصلي على سبعمائة ميت دفعة واحدة.. الشوارع تخلو.. القاهرة والفسطاط والجيزة والإسكندرية ومدن مصر تتحول لمدن أشباح.

عام كامل ثقيل تفقد مصر خلاله ثلث سكانها في هذا الكابوس.

ولا تكاد القاهرة تفيق من انقشاع الوباء عنها حتى تشتعل من جديد صراعات الأمراء في مجلس المشورة، ويستغل الناصر حسن خلافات الأمراء وسفر كبارهم للصيد فيعلن نفسه راشدا بشكل رسمي ويعزل بعضهم ويعتقل البعض الآخر متحالفا مع بضعة أمراء من الطامعين في السلطة، ثم يقرر التمرد على هؤلاء الأخارى فيدبر مع خاصكيته أن يدعي المرض ويعتقلهم أثناء زيارتهم له، فيدرك حلفاؤه الخدعة ويحاصرونه ثم يقومون جميعا بخلعه واعتقاله وتولية أخيه صالح، لكنهم لا يقتلون حسن بل يكتفون بتحديد إقامته.

وكما دعت “توازنات القوى” الأمراء لخلع حسن وحبسه وتولية صالح السلطنة، دعتهم سنة 1354م لخلع صالح وحبسه وإعادة تولية حسن الذي شجعهم اعتزاله السياسة وقضاءه وقته في العبادة على إعادته للعرش، وأصبح الأمير شيخو العمري -أتابك العسكر- مدبرا للملكًا وحاجرا على السلطان.. لكن لعب القدر دوره، فبينما شيخو في مجلسه هاجمه أحد المماليك بسيفه وأحدث به إصابات بالغة أدت لمقتله بعد أيام متأثرا بجراحه.. وفورا اتجهت أصابع الاتهام للسلطان الذي نفى عن نفسه التهمة بل وأشهد القوم على الجندي الذي اعترف أنه هاجم شيخو لضغينة شخصية تتعلق براتبه ورتبته.

حل الأمير صرغتمش محل شيخو كمدبر للمملكة، لكن الناصر حسن كان قد قرر تغيير سياسته للتمرد على الحاجرين عليه، فبدأ يوجه نظره إلى طبقة “أولاد الناس”، وهم جيل أبناء المماليك الذين وُلِدوا بعد تحرر آباءهم ولم يعيشوا حياة المملوك.. بدأ في تقريبهم منه وتعيينهم في الرتب العسكرية ليستقوي بهم، حيث أنهم يشتركون معه في كونهم لم يمسهم الرق.. ثم وجه ضربته فدبر اعتقال صرغتمش وإرساله لسجن الإسكندرية، وانفرد الناصر حسن بالحكم.. وقام فورا بترقية “أولاد الناس” للمناصب العليا، كذلك قام بترقية مماليكه هو وعلى رأسهم الأمير يلبغا العمري.. لكن هذا الأخير لم يقنع بالدرجة التي وضعه فيها السلطان، وكان فيما يبدو يأنف من مساواته كمملوك تدرج في سلك الفرسان بطبقة أولاد الناس، فقرر التمرد عليه، وأحس السلطان بذلك فقرر استدراجه واعتقاله.. لم يكن الناصر يعرف أن لخصمه عيونا تراقبه وآذانا تتنصت عليه.. فتحت جنح الليل خرجت إحدى محظيات الناصر حسن وتوجهت سرا لبيت يلبغا العمري وأخبرته بما يدبر له.

هنا قرر يلبغا أن يسبق عدوه، فدبر انقلابا ضده وكالعادة تواجه الخصمان ومع كل منهما رجاله، ورجحت كفة الأمير يلبغا فقبض على السلطان.

وهنا يتوقف المراقب للتاريخ المملوكي ذاهلا أمام واقعة شاذة هي أن يقتل المملوك أستاذه، فيلبغا فور قبضه الناصر حسن سارع إلى قتله دون حتى أن يشاور أحدا.. واضعا نهاية مأسوية لست سنوات نعمت فيها السلطنة -رغم المِحَن- بسلطان عادل تقي رفيق بالرعية، له همة عالية في البناء والتعمير والإصلاح، استطاع وحده أن يعيد لكرسي السلطنة هيبته -ولو مؤقتًا- وأن يخرج السلطان من كونه مجرد ألعوبة للأمراء، لكن شيطان الاستماتة على السلطة سلط عليه يلبغا الذي هوى بسيفه على عنقه فأزاله وأزال عهدا كان يمكن أن يكون إحياءً لعهود السلاطين الأوائل العظام، ولم يبق من عهده هذا سوى ذلك المسجد المعروف بمسجد السلطان حسن.

بالطبع امتعض المماليك من هذا الفعل الخسيس، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام أمر واقع، فكظموا غيظهم -إلى حين- وسارعوا لتولية العرش لواحد من أحفاد الناصر محمد بن قلاوون، وهو المنصور محمد بن السلطان القتيل المظفر حاجي.. لتنتقل لعنة الدم للجيل التالي من آل قلاوون.

(يتبع)

محتويات الموضوع