دم المماليك (14).. محمد بن قايتباي.. القتل والتعذيب على سبيل التسلية

القاهرة – 1497م

هدرت المكحلة (المدفع) المسماة بـ”المجنونة”، وقذفت ما في جوفها من أعلى باب السلسلة بقلعة الجبل، نحو جامع السلطان حسن المواجه لها، حيث يتحصن المتمردون المحاصِرون للقلعة، بقيادة الأمير آقبردي الدوادار والأتابك تمراز الشمسي – ابن خالة السلطان.. قفز السلطان، الذي لم يتجاوز بعد السادسة عشرة من عمره، نحو السور ليرى أثر القذيفة.. كأن صاعقة هوت على شباك الجامع
فأطاحته ومن ورائه.. استطاع السلطان محمد بن قايتباي أن يسمع من مكانه أنين وصراخ من شاء حظهم العاثر أن يكونوا أمام كتلة الحديد الملتهبة وهي تكسح ما يقف في طريقها.. أخذ يتقافز مرحا بشكل طفولي وهو يتأمل بغير تصديق الدمار الناتج عن طلقة مدفعه العملاق.. شعر بيد تجذبه بقوة، فالتفت ليرى خاله الأمير قنصوة، الذي صاح به: “مولانا السلطان.. ابتعد عن السور لا تصيبك رمية سهم أو بندق”.

أفلت السلطان ذراعه، وعاد يشب على السور، قائلا بشغف لا يتناسب مع خطورة الموقف: “ترى كم قتلت القذيفة؟”، عاد الأمير يجذبه بإلحاح وهو يجيبه: “لا يهم كم قتلت، بل يهم من قتلت.. فحتى الآن أكثر قتلى جند أقبردي هم ممن يخدمونه من العربان.. ونحن نريد أقبردي.. وندعو الله أن يهدي ابن خالتكم الأمير تمراز لمفارقته، كي لا يروح معه في القتال.. مولاي، تعالَ معي من شأن خاطري”، طاوعه السلطان وسار معه باتجاه قاعة الحكم، هو يكمل حديثه كأن لم يسمعه: “يجب أن نصنع مزيدا من المكاحل.. وأريد أن أتعلم بنفسي صنعة تلقيمها والضرب بها”، قاطعه خاله بصرامة، بعد أن تأكد أن لا أحد يسمعهما: “مولاي.. يا بني.. يا ابن أختي.. استحلفك بكل عزيز أن تكف عن طيشك.. صار لك عام سلطان ولم تلتزم سلوك وآداب السلاطين.. تنام في مجلسك في حضرة الأمراء، تهرب من القلعة ليلا في زي العوام، وتذهب لبركة الرطلي وتخالط السوقة والحرافيش وجرابيع السكك.. تذهب لاحتفالات الغاغة، وتبيع الجبن، وتعربد هنا وهناك.. يا الله يا رحيم.. سلطان المسلمين يبيع الجبن المقلي ويسكر وينسطل في مراكب البغايا والمحششين، بل ويجلبهم لحوش القلعة ليلعب معهم؟”

زفر السلطان بضيق من مل تكرار التوبيخ، وقال “هذه متعتي؟ أليس لكل إنسان متعه؟ أنا أتمتع بالخروج والتخفف من المراسم والتشاريف، وما إلى ذلك من الأشياء الثقيلة على نفسي.. هل يعقل أن يكون حرفوش يسكن خرابة في زقاق بجوار كيمان أو مزبلة أكثر حرية من السلطان؟”

أجاب قنصوة بإصرار:”نعم يعقل!”، وقبل أن يُكمِل اضطر لقطع حديثه وهو يلحظ تقدم أحد الجند منهما، فربت على كتف السلطان قائلا بسرعة: “نكمل حديثنا فيما بعد”، ثم نادى أحد المماليك الجلبان (المجلوبين كبارا، بعكس المعتاد من جلب المملوك صغيرا)، آمرا إياه باصطحاب السلطان لجناحه.. التفت للجندي الذي مال عليه وهمس: “الأمير كرتباي الأحمر أرسلني لأخبركم أنه سيعمل على التحايل للنزول من القلعة وأخذ الجامع من أقبردي وتمراز وزمرتهما”، أومأ له قنصوة، ثم التفت ينظر بشرود لظهر ابن أخته المبتعد بصحبة مملوكه، وهو يفكر: “كان قايتباي – رحمه الله – مصيبا فيما كنا نلومه فيه من اشتداد على هذا الفتى، وقسوة في معاقبته على نزقه وطيشه.. وكان بعيد النظر حين رفض توليته العهد من بعده”.

……….

انتهت الحرب.

استطاع كرتباي أن يأخذ جامع السلطان حسن من المهاجِمين.. كسر قوة أقبردي، الذي تسحب منه أتباعه مجموعة تلو الأخرى، واضطر للهرب إلى الشام، بينما قُتِلَ تمراز.. داهم كرتباي الأحمر المتمردين، وقتل منهم الكثير.. تمخض الاقتتال الذي استمر أكثر من ثلاثين يوما عن مقتل خمسين أميرا وألفا من المقاتلين مماليك وعربان.. كل هذا لا يهم السلطان، ما يهمه هو أن فترة حبسه الإجباري في القلعة، بحكم الحصار، قد انتهت، وأنه يستطيع الآن النزول لمواصلة إرضاء نزواته.. قام بالمراسم المعتادة لنهايات تلك الصراعات المسلحة، بتعيين هذا وعزل ذاك.. جعل خاله قنصوة دوادارا (المسئول عن المراسلات والوثائق السلطانية، وهو منصب سيادي)، وعين كرتباي الأحمر أمير سلاح (مسئول عن الأسلحة السلطانية)، بينما استدعى الأمير العجوز أزبك بن ططخ – صديق أبوه السلطان الراحل قايتباي وذراعه اليُمنى – وجعله أتابكًا للعسكر.. حسنا، الآن استراح من مشاغل الحكم وصراعاته.. وحان الوقت لإرضاء تلك الرغبة التي تعوي بداخله وتعذبه منذ أكثر من شهر.

تسلل هابطا من القلعة متنكرا في زي عامي.. يسعى إلى مستوى أعلى من المتعة.. الأمر بدأ معه بفضول مفاجئ لمشاهدة المشاعلي وهو يُعذّب المسجونين، أو ينفذ فيمن قُضِيَ بقتله حكم الإعدام.. انتهز فرصة انشغال أمراء مجلسه وذهب لأحد سجون القاهرة.. انتقى بعض المساجين وحملهم للقلعة.. استدعى المشاعلي، وقال له: “علّمني شغلك”.. كانت ضحيته الأولى شابا يكبره بسنوات قليلة، لا يعرف فيم سُجِن، ولا يهمه.. فقط رأى أن يجرب التوسيط في جسده النحيل، قبل أن يتمرن على ممارسته على أجساد أكثر سُمكًا وقوة.. “هذا”، قالها مشيرا له فجُرِّد المسكين من هدمته، ومدده المشاعلي على ظهره ممسكا بيديه، بينما قبض أحد جلبان السلطان على قدمي الضحية.. رفع السلطان السيف عاليا، وهوى به ليشق الجسد الممدد تحت سرّته، لكن دون أن يتم قطعه لنصفين كما تقتضي الصنعة.. تقدّم من الشاب المحتضر وأخذ يرمق رقصة رجليه في نزعه الأخير.. ارتجل لحنا بدندنة شفتيه على إيقاع التشنجات الأخيرة للسجين المحتضر.. تشمم بفضول الدم الذي تفجّر ليتناثر عليه ويصل إلى وجهه.. رفع نظره للمشاعلي قائلًا بمرح: “لماذا لا تختلف رائحة دم هؤلاء عن رائحة دماء جنسنا؟”

تقدم المشاعلي من السلطان طالبا السيف ليجهز على الشاب الذي طال عذابه عن الاحتمال.. رفض الفتى بإشارة عنيدة من يده، وهو يسأل بفضول مريض: “هل لو قطعنا أنفه وأذنيه ويده يشعر بالألم، كما لو فعلناه بهذا؟” مشيرا لسجين آخر انهار على ركبتيه، فاندفع السلطان نحوه ورفع وجهه مجبرا إياه على الالتفات إليه، ومردفا: “لماذا لا نجرب؟ هو أولا قبل أن يخرج السر الإلهي.. ثم أنت!”

لفح الهواء البارد وجهه وهو واقف يتذكر تلك الليلة “المرحة”.. شعر بدغدغة نشوة في معدته وأسفل بطنه وهو يسترجعها.. أدرك أن وقوفه الطويل دون حراك قد يلفت نظر بعض عسس الليل، مما يهدد بكشف هويته.. وضع اللثام على وجهه، واشتد في سيره مقتحما زحام العامة حول بعض بياعي العلاليق (حلوى مسكّرة تعلق في دكان البائع بخيط، فتسمى علاليق).

الليلة لا يريد سجينا.. فمتعة تعذيب وقتل السجناء صارت ضعيفة، بل صار هذا أمرا كله ممل.. كمن يضع لك السمك في طست ويجعلك تصيده.

الليلة سيصيد السمك من البحر مباشرة!

……….

القاهرة تعيش في رعب

القصص تتناقلها الألسن عن السلطان المراهق المجنون، الذي يتنكر ويخرج ليلا.. يصطاد بعض الناس من مولد أو محششة أو مركب في النيل.. يصطحبهم للقلعة.. وهناك يبدأ الحفل.

وبينما لم يستطع خاله قنصوة السيطرة عليه، كان الأمير كرتباي الأحمر يقف له على الواحدة، فأرسله نائبا على الشام ليتسنى له الانغماس في “هوايته”، دون مضايقة أو حجر من أحد.

أصبحت حالته أصعب، فصار يطوف بالشوارع بعد الغروب، ومعه أعوانه ورجاله خدم “صيده”، فإذا وجد أحدًا يمر قبضه وحمله للقلعة، وأقام على جسده الحفل الدامي.

والأمراء في سخط من سلوكه، وفي خوف من جنونه الذي امتد لقراراته، حيث قام في نزوة عابرة بإطلاق سراح بعض الأمراء من أتباع الأمير أقبردي المتمرد.. فهاجت الدنيا وماجت، واستغل المماليك الجلبان الفرصة، فنزلوا للقاهرة ونهبوا بيوتها وأهلها.. واضطر الأتابك أزبك – الذي فاض به من عبث السلطان – للنزول بقواته للقاهرة للسيطرة على الوضع.. ولم تكد تلك الفتنة تنقشع حتى هجم الطاعون بضراوة حاصدا مئتي ألف نفس.. والسلطان مازال في فجوره يعربد، بل وتمادى، ففرض على أزبك نفسه، وعلى الأمراء، ما يشبه الإتاوة، ليدفعها إلى مماليكه الجلبان لضمان استمرار ولائهم.. وشجّع هذا الجلبان على إثارة الشغب والتطاول على الأمراء، لحد قذف مجلسهم في القلعة بالحجارة.. وأدت هذه السياسات لحدوث جفوة بينه وبين الجميع، فتباعدوا عنه، ولم يعد يحضر مجلسه من الأمراء سوى أزبك – ربما وفاء لأبيه/صديقه الراحل قايتباي لا أكثر.. بل وحتى أزبك ابتعد عنه، وبدأ يحدث تقارب بين قنصوة – خال السلطان – وأتباعه، وحزب الأمير أقبردي – الذي كان قد توفي – وأجمع الكل على أمر واحد: هذا السلطان المجنون يجب القضاء عليه!

……….

الجيزة – منطقة الطالبية – 1498م

كاد السلطان أن يشرق بضحكه وهو على صهوة جواده، ومعه ابنا عمه جانم وجاني بك، مسترجعا معهم البابات (عرض خيال الظل) بذيئة الموضوع والأداء، والتي قدمها له أبو الخير الخيالي الشهير، في رحلته الأخيرة للتريض بالجيزة.

اقترب الرَكب الذي لم يكن يضم إلا السلطان وابني عمه وبعض السلاحدارية (حملة الأسلحة السلطانية)، من مخيّم الأمير طومان باي (وهو غير الشهيد طومان باي، آخر سلاطين المماليك)، المستعد للتوجه للبحيرة لقمع بعض المفسدين بها.. استوقفهم الأمير، وباس الأرض عند حوافر خيل السلطان، داعيا إياه للترجّل وتناول الطعام معه.. بقي السلطان فوق فرسه وقال ضاحكا: “ماذا ستطعموننا؟”

أمسك طومان باي لجام الفرس السلطاني، وصوب عينيه لعيني السلطان، قائلا بقسوة مفاجئة: “الموت!”

ما إن قالها حتى انفتحت الخيام عن نحو خمسين مملوكا أيديهم على السيوف.

لم يطيلوا الحديث.. بل لم يتحدثوا أصلا.. لكنهم تركوا خلفهم جثة ممزقة، ارتمى إلى جوارها رأس مشوّه ترمق عيناه السماء برعب، وقد أدرك صاحب الجسد والرأس أن القتل ليس بالشيء الباعث على المرح.. خاصة وأنت بعد في السابعة عشرة من عمرك.

وعلى مرمى حجر تناثرت جثث ابني عمه وبعض سلاحداريته.

وكأنهم خشوا أن تصيبهم اللعنة إن مسوا جثته، أو حسبوا أن ساكن جسده كان في الحقيقة شيطانا مريدا، فخافوا أن يتلبسهم.. تركوا جثته أياما في العراء.. حتى جاء بعض أهل الجيزة وجمع بقاياها وكفنها.. ودفنها بغير جنازة، لأنه لم يجد من يصلي عليه.

……….

فوضى ما قبل النهاية:

بعد مقتل محمد بن قايتباي؛ حاول الأمراء إقناع الأمير أزبك بن ططخ أن يتولى السلطنة، فرفض بعناد شديد، وتعلل.

كان الأمير أزبك جديرا بالسلطنة، فقد قضى عمره – خاصة عهد قايتباي، حيث كان أتابكه وذراعه اليُمنى – في خدمة السلطنة بإخلاص، وقد اشتهر بالقوة والاستقامة والهمة العالية، كسر المتمردين وهزم العثمانيين المتحرشين بالحدود الشمالية للدولة، وأسس حي الأزبكية، بعد أن كان خرائب وصحارى.. وبقي في نشاط دائم رغم سنوات عمره، التي كانت عند موت قايتباي قد تجاوزت الثمانين.. حتى استحق أن يوصف بأنه “رجل قد فاتته السلطنة”، أي خسرته.

وليته قبل السلطنة، إذن لكان قد نظم أوضاعها في ذلك العام الأخير من حياته (توفي 1499م عن 85 سنة)، ولم يكن العرش ليصبح لعبة في السنوات التالية.

لكن.. تولى الأمير قنصوة خال السلطان القتيل السلطنة، وعيّن الأمير طومان باي دوادارا، والأمير جان بلاط أتابكًا للعسكر، لكنه سرعان ما تعرض لانقلاب عسكري منهما، فخُلِعَ سنة 1500م، وهرب إلى بعض بيوت القاهرة، حتى دلّ البعض عليه، فحُمِلَ لسجن الإسكندرية، وبقي معتقلا فيه حتى ما بعد الغزو العثماني.. لكن، سنة 1517م – بعد احتلال العثمانيين لمصر – انتشرت شائعة أن بقايا المماليك ينتوون التمرد وتحرير مصر، وإخراج قنصوة من سجنه ووضعه على رأس السلطنة، فأمر سلطان العثمانيين سليم الأول بقتله، فخُنِقَ في محبسه.

بعد خلع قنصوة؛ تسلطن الأتابك جان بلاط، لكنه لم يكن محبوبا من الجند والأمراء، بل وكرهته العامة، لأنه قام بمصادرة الكثير من أموال الناس؛ ليدفع المال للمماليك الجلبان لكسب رضاهم وولائهم.. استغل طومان باي ذلك، وقام بعد أقل من سنة من سلطنة جان بلاط بتدبير مؤامرة مع الأمير قصروه المتمرد بالشام، وزحفت قواتهما حتى بلغت القاهرة، وسيطرت على القلعة، وخلع طومان باي شريكه السابق جان بلاط، واعتقله أياما ليستجوبه عن مخابئ ثرواته، ثم أرسله لسجن الإسكندرية، حيث تم خنقه هناك بأمر طومان باي، الذي تسلطن وحمل لقب العادل، وكما غدر بحليف الأمس جان بلاط؛ كرر غدره بحق شريك اليوم قصروه، فدعاه لوليمة ثم اعتقله وقتله.

أثار غدر طومان باي غضب الأمراء، فجافوه، حتى لم يتمكن من تعيين أتابك للعسكر خشية انقلابه عليه، وبعد أقل من أربعة أشهر من حكم طومان باي؛ جاهر الأمراء بالثورة ضده – في شهر رمضان – لعلمهم نيته القبض عليهم والتخلص منهم بعد صلاة العيد، وحاصروا القلعة، فاضطر للفرار منها ليلة العيد، واختفى هاربا لمدة نحو أربعين يوما، حتى تم القبض عليه من قِبَل الأمراء، الذين قتلوه فورا لشدة سخطهم عليه.

بعد مقتل كل هذه الأسماء البارزة؛ تعرضت السلطنة لحالة من الفراغ السياسي.. وامتنع الكل عن التقدم لكرسي السلطنة، فلم يجد الأمراء بدا من إجبار أكبرهم سنا ومنصبا على تولي الحكم، وهو الأشرف قنصوة الغوري، ليبدأ الفصل الأخير من حياته، وحياة دولة المماليك.

(يتبع)

محتويات الموضوع