دم المماليك (1).. إما في القصر وإما في القبر!

منطقة الصالحية -طريق عودة السلطان قطز إلى مصر بعد انتصار عين جالوت وترتيب أوضاع بلاد الشام -معسكر الجيش المملوكي- 22 أكتوبر 1260م

وقف أتابك العسكر ينظر في صمت إلى الأميران بيبرس البندقداري وقلاوون الألفي ورفاقهما وقد عادوا دون السلطان.. رفاق بيبرس يعلو وجوههم التوتر وقبضاتهم تلتف في تحفز على مقابض سيوفهم.. أحدهم يرمق بعض قطرات الدم التي نسي في تعجله مسحها، تلوث عباءته فيعبث بطرف العباءة مداريا أثر الجريمة بين ثنيات الثوب.. خيط عرق بارد يسيل على صدغ قلاوون وهو ينظر شفتا بيبرس اللتين انفرجتا بعد ثوان مرت كدهر قائلا: السلطان.. مات.. قُتل.

حركة متشنجة من حرس السلطان أخرسها الأتابك بإشارة صارمة من يده، ثم قال كأنما لم يسمع ما يصدم: أيكم قتله؟

نظراته الباردة لم ترتفع عن بيبرس في إشارة واضحة لمعرفته الإجابة قبل طرحه السؤال.. ولم يخيب هذا الأخير ظنه، فقال بهدوء مماثل: أنا قتلته.

انفرجت الملامح الصخرية للأتابك عن ابتسامة مهذبة وهو ينحني مشيرا لكرسي الحكم المرتفع أعلى مصطبة أمام الخيمة السلطانية، قائلا ببساطة من لم يتلق توا نبأ اغتيال سلطان المسلمين وبطل معركة عين جالوت: “يا خوند” -وهو لقب السلطان- “اجلس على مرتبة السلطنة مكانه”

ومن هنا كانت لحظة ميلاد المبدأ الأول للحكم طوال 250 سنة من الحكم المملوكي لمصر والشام: “هي لمن غلب”.

……….

إن كانت هذه اللحظة هي بداية تطبيق المبدأ سالف الذكر بشكل “رسمي”، فإنها لم تكن البداية لتطبيقه الفعلي، فقبل قطز سقط سلطانان -أيبك وشجرالدر- ضحيتان للتصارع على السلطة والنفوذ في الدولة المملوكية الناشئة، وكما لم يكن قطز الأول، فإنه لم يكن الأخير، فحتى سقوط حكم المماليك للمشرق العربي عام 1517م على يد الغزاة العثمانيين، شهد عصرهم نهايات درامية لأكثر من 20 سلطانا بين إنهاء لحكمه بالاغتيال أو إعدامه بعد خلعه أو شبهة جنائية تحوم حول ظروف وفاته.. وقد حاولت عمل قائمة بأصحاب تلك النهايات فوجدت الآتي:

5 حالات اغتيال.

12 حالة قتل للسلطان بعد عزله.

2 حالات قتل خلال معركة بين السلطان وأعدائه.

5 حالات شابت وفاتها شبهات اغتيال -غالبا بالسم- سواء بعد العزل أو في نهاية الحكم.

أي أننا أمام 24 حالة لسلاطين لم تنته عهودهم بطريقة لا تحمل رائحة القتل.

رقم صادم، خصوصا بالنسبة لقرنين ونصف من الزمن، ومثير للدهشة لو عرفنا أن هذا العصر رغم طول وشراسة صراعاته وأزماته الداخلية والخارجية شهد قوة للدولة وفترات غير  بسيطة -بالنسبة لمدى حساسية وتوترات الأوضاع في هذا العصر- من الازدهار الملحوظ في مختلف المجالات.

والقاريء للتاريخ المملوكي يلاحظ أن تلك النهايات الدرامية لعهود كثير من سلاطينه، كانت بمثابة القاعدة، بينما كانت النهايات الهادئة كالوفاة الطبيعية أو الاعتزال السلمي أو الاكتفاء بنفي أو حبس السلطان المعزول هي الاستثناء.. حتى إن مما يذكر عن السلطان قنصوه الغوري أنه حين تعرض لإلحاح الأمراء لتولي السلطنة بكى وتوسل لهم أن يعفوه منها، ولم يقبل بها إلا بعد أن تعهدوا له أنهم إن أرادوا عزله، لن يقتلوه أو يحبسوه، بل يصرفونه صرفا جميلا.

فكيف تعايش المماليك وتعايشت الدولة مع هذا النمط من تداول السلطة؟

فليلاحظ القاريء أولا أن دولة المماليك تختلف عن باقي الدول السابقة والمعاصرة لها.. إنها لم تقم على حكم أسرة كالأمويين والعباسيين والعثمانيين، بل قامت على حكم فئة من الناس، أي أنها أشبه بانفراد حزب أو مؤسسة بحكم دولة، بالتالي فإن مبدأ وراثة الحكم من السلف لخلفه لم يكن القاعدة الثابتة، وإن حرص المماليك على مراعاته شكليا فقط فيما يتعلق ببعض أبناء السلاطين كأبناء بيبرس أو قلاوون، وغالبا ما كانت هذه المراعاة تأتي خدمة لمصالح وتحالفات وترتيبات بين كبار الأمراء.. أهمها -أحيانا- حرص الأمراء الأقوياء على عدم الإخلال بموازين القوى بينهم، فكان الحل الأمثل غالبا ما يكون وضع أحد أبناء السلطان السابق على كرسي السلطنة بشكل صوري، والحكم وراء ستاره، خصوصا لو كان طفلا غير راشد يسهل التحكم فيه من الأوصياء عليه.. أما فيما عدا ذلك، فلم يكن من احترام لتوارث الحكم أو ولاية العهد رغم أية عهود أو مواثيق يأخذها السلطان الراحل قبل موته على أمرائه لاحترام شرعية ولي عهده.

وثانيا، فإن الجانب الإنساني من علاقات أبناء الطبقة المملوكية الحاكمة بعضهم ببعض، لم يقم على الارتباط الأسري أو القبلي -بحكم تنوع وتعدد أصولهم- بقدر ما قام على احترام القوة والزعامات، أو الارتباط منذ النشأة سواء بين المملوك وسيده -المسماة بعلاقة الأستاذية- أو المملوك وزميله في التربية -المعروفة بعلاقة الخشداشية- والزميل فيها اسمه خشداش.

ثالثا، فإن الأغلبية العظمى من المماليك كانت من أصول قوقازية أو تركية أو روسية أو تترية، تحكمها جميعا ثقافة الحكم القبلي القائم على قدرة الفرد على الوثوب على الحكم والسيطرة عليه بطرق غالبا دموية وحشية، فكان تبنيهم لمبدأ “الحكم لمن غلب” والمبدأ الثاني المترتب عليه “الحاكم إما في القصر أو في القبر” بمثابة التبني لتقاليدهم القديمة وتصديرها لنظام الحكم في دولتهم، وحتى القلة ممن كانت أصولهم من غير تلك الشعوب سالفة الذكر كالسلطان -ألماني الأصل- حسام الدين لاجين، أو اليوناني الميلاد الظاهر خشقدم لم يستطيعوا أن يخرجوا بالسياسة المملوكية عن تلك الدائرة.

أخيرا، فإن كل ما سبق قد أدى إلى اتسام الحياة السياسية في هذا العصر بسمة التآمر والتآمر المضاد، والخيانات والانقلابات و”التربيطات” بين أثقال الطبقة المملوكية، وبالتالي فإن صراع السلطة كان غالبا ما ينتهي بمقتل أحد الطرفين المتصارعين -ومن يوالونه- خوفا من تآمرهم للانتقام من المنتصر أو محاولة إسقاطه والعودة للحكم.

كل هذا جعل من قلعة الجبل -مقر الحكم ومطبخ السياسات- مكانا أشبه بجحر الثعابين أو غابة الحيوانات المفترسة، وجعل من عالم المماليك عالما خطرا لا تتوقف فيه أصوات صليل السيوف، إلا لتدور همسات التآمر.

فعن هذا العصر المثير، وعن هذه النهايات الدرامية لكثير من سلاطين المماليك.. نتحدث.

محتويات الموضوع