دم المماليك –الأخير- قنصوة الغوري.. طومان باي الثاني.. السقوط

قنصوة الغوري.. العائش خارج حدود الواقع:
بلاد الشام – مرج دابق – أغسطس 1516م:
لولا ما قرأ في القرآن، وسمع من الفقهاء، عن أهوال زلزلة الساعة لحسب السلطان قنصوة الغوري أنها ما كان يمر به في تلك اللحظات المشئومة، فالجيش المكوّن من ثمانين ألفا من المقاتلين قد انهار سريعا أمام مدافع العثمانيين، استشهد كل من قائدي القلب والميمنة، وفر جنودهما، وخاير بك
نائب حلب وقائد الميسرة انقلب عليه في خضم المعركة، وراح يؤخر تقدم القوات الاحتياطية، وينشر شائعات مقتل السلطان نفسه.. بل وبدت واضحة مخامرته مع ابن عثمان – السلطان العثماني سليم الأول – بانضمامه لجيشه، ومعه جان بردي الغزالي نائب حماة.
إعصار الفوضى ضرب صفوف الجيش المملوكي، وتقدمت قوات سليم الأول حتى احتلت مواقع المماليك، وأسرت الخليفة العباسي وثلاثة من قضاة الشرع الشريف الأربعة.
تفجر جوفه بالحامض، ودارت الدنيا به، فانحنى يفرغ ما في بطنه، حاول التشبث بالجواد الجافل من الهول المحيط، واعتدل بصعوبة من يرفع جلمودا بكتفيه، رأى في الأفق غمامة سوداء تعاظمت حتى ابتلعت الرؤية، اجتاحت عاصفة ثلجية نصف جسده الأيسر، فلم يدرك إلا وهو ساقط عن جواده، ورجله معلقة بركاب السرج، والحصان الهائج يكنس به الأرض ناهبا إياها بسنابكه في فرار من الفزع العظيم.. طارت عمامته عن رأسه، الذي أدمته الأحجار المتناثرة، حاول التحامل على نفسه ليمسك بيده اليمنى ركاب الفرس، ليحرر نفسه من السحل.. لم يتحرر، لكنه انبطح على وجهه ليسفّ تراب أرض المعركة، ويملأ فمه مذاق التراب والرماد.. أحس على لسانه بطعم دموي، فلم يعرف هل هو دمه أم دم بعض من ارتطم بها من جثث جنوده.. أحس مخالب الألم تعبث بأنحاء جسده بلا رحمة، حطم الألم العنيف أقفال ذاكرته، فانطلقت ذكرياته تتطاير أمام عينيه كحزمة أوراق نثرتها الريح في ليلة عاصفة.. رأى نفسه منذ خمسة عشر عاما وهو يتوسل للأمراء أن يعفوه من تولي السلطنة، وإلحاحه لا يزيدهم إلا عنادا، أخيرا رضخ وهو يبكي، لكنه استحلفهم أنهم إذا أرادوا خلعه لم يقتلوه أو يحبسوه، وإنما يصرفونه صرفا جميلا.. تفاصيل فترة سلطنته صفعته واحدة تلو الأخرى، فلم يعد يدرك الموجودات، ولا حتى الألم عاد يحس به.. سنوات لم يعرف خلالها الهناء الحقيقي، وإن حرص أن يحيط نفسه بأسباب الرفاهية والفخامة.. الأمراء يخامرون بعضهم على بعض، ويقحمونه عنوة في صراعاتهم، بل ويخامرون عليه لخلعه، حتى إذا قال لهم: “ها هي سلطنتكم خذوها! لا أريدها!” رجعوا وتشبثوا ببقائه على العرش.. ينحنون له ويُقبّلون الأرض بين يديه، ثم يعتدلون من سجودهم ويسقونه الحنظل.. الجلبان يشغبون عليه، ويصيحون بوجهه كل حين مطالبين بالمزيد من العطيات والهبات.. يضطر لفرض المصادرات على الأموال والضرائب على السلع، فتقف العامة بطريق موكبه، ويصرخ الناس في وجهه “لماذا لا ترفع الظلم”.. يحاصره العجز، فيصب جام سخطه على الخليفة، على سبيل تفريغ الغل قبل أن يحرقه.. تنغلق عليه حلقة المؤامرات، فيبحث عن معين له خارج نطاق الأمراء، ويجده أخيرا في الحاج زين الدين بركات بن موسى المحتسب، ثم يكتشف أن هذا الأخير ليس أقل ثعبانية وانغماسا في المؤامرات منهم.. يحس أنه قد صار فردا وحيدا في جب مسكون بالأفاعي، فينغمس في متعه التي لا تعدو جلسة سمر أو مجلس نقاش أدبي.. يشغل نفسه بمجالس الأنس ومآدب الطعام لينسى السياسة وألاعيبها، فما يكاد يلتقط أنفاسه حتى يداهمه العثمانيون بحدهم وحديدهم.. يقسو عليه القدر، فيكتب عليه أن تكون سلطنته شؤما على دولة المماليك العتيدة، ويكون سقوطها مقرونا باسمه.
يرجع للوعي، فيدرك ابتعاد أصوات المعركة، مازال الفرس المرعوب يجره إلى الأفق القاتم.. تكتمل مأساته بألا يعرف أحد موضع جثمانه، وألا يكون له قبر معروف تُقرأ عنده الفاتحة.. سيتحدث الناس عن نهايته رجما بالغيب.. يقولون صدمته الهزيمة فأصابه الفالج ومات، سيقول البعض بل مص فص خاتمه المسموم لينجي نفسه من عار الأسر.. لا يهم ما يقولون، فبعد أعوام من المعاناة يترك لهم الدنيا بخيرها وشرها ويمضي إلى دار أخرى، ربها أرحم به من أهل هذا العالم القاسي.. لا يهمه أن يقال عنه سلطان نال الصيت بغير أن يغني عن السلطنة شيئا.. يهمه فقط أن يغمض عينيه مرة أخيرة بلا خوف أو معاناة.
……….
مجرد الشعور بالدهشة من هزيمة جيش المماليك بقيادة قنصوة الغوري هو أمر مدهش في حد ذاته، فرغم كل اضطرابات وقلاقل العصر المملوكي، ورغم كل مساوئ كثير من سلاطينه، إلا أنه كان عصرا “متحركا”.. أما عهد الغوري فقد اتسم بالسياسات النمطية التقليدية، الخاملة عن التجديد ومواكبة التطور.. وهو نفسه – قنصوة الغوري – كان كأنما هو يعيش خارج زمنه ومكانه وظروفه المحيطة، فلم تكن تحركاته على المستويين الداخلي والخارجي بالتي تتناسب مع الأحداث والمتغيرات.. وأبسط مثال على ذلك هو فارق التسليح بين دولة عريقة في الفروسية والقتال وفنون صنع واستخدام السلاح، والدولة العثمانية الأقل عراقة وخبرة من المماليك في هذا المضمار.. ورغم ذلك كان مستوى تسليح الجيش المملوكي أقل بمراحل من ذلك الذي حظي به الجيش العثماني.
طومان باي الثاني.. شهيد الواجب وقتيل الخيانة:
الديار المصرية.. منطقة الريدانية خارج القاهرة.. 1517م
شد قامته على صهوة جواده متأملا قواته البائسة.. أربعون ألفًا هم خليط من بقايا عسكر المماليك، وبعض العربان، وشراذم من المجرمين الذين أطلق سراحهم وسُلحوا مقابل الدفاع عن العاصمة، وبعض فرق الأعيان المسلحة، وحفنة من العبيد السود.. لكن لا قائد عسكري محنّك فيهم.. هذا هو جيش السلطان طومان باي الثاني، الذي سلطنه الأمراء على عجل، وتكلف عبء الدفاع عن القاهرة في معركة دولة المماليك الأخيرة.
أخيرا ظهرت طلائع الجيش الجرار الذي يقوده ابن عثمان (سليم الأول).. اندلعت المعركة التي كانت نتيجتها معروفة سلفا، مزق جيش العثمانيين الجيش المصري، مخلفة أمامها خمسا وعشرين ألف شهيد.. فرّ الباقون وتشتتوا، اضطر طومان باي للفرار.. وفغر الغول العثمانلي فاه مبتلعا القاهرة، ثم الإسكندرية، فباقي المدن واحدة تلو الأخرى.
“نبكي على مصر وسكانها.. قد خربت أركانها العامرة
وأصبحت بالذل مقهورة.. من بعد ما كانت هي القاهرة”
من رثاء الشيخ بدر الدين الزيتوني لما عاصر من بداية الاحتلال العثماني لمصر.
“ثم دخلوا جماعة من العثمانية إلى الطواحين، وأخذوا ما فيها من البغال والأكاديش، وأخذوا عدة جمال من جمال السقايين، وصارت العثمانية تنهب ما يلوح لهم من القماش وغير ذلك، وصاروا يخطفون جماعة من الصبيان المرد والعبيد السود، واستمر النهب عمالا في ذلك اليوم إلى بعد المغرب، ثم توجهوا إلى شون القمح التي بمصر وبولاق، فنهبوا ما فيها من الغلال”
“وصاروا ينهبون بيوت الناس، حتى بيوت الأرباع، في حجة أنهم يفتشون على المماليك الجراكسة، فاستمر النهب والهجم عمّالًا في البيوت ثلاثة أيام متوالية”
“وشرعت العثمانية تقبض على المماليك الجراكسة من الترب، من فساقي الموتى ومن غيطان المطرية، فلما يحضرونهم بين يدي ابن عثمان يأمر بضرب أعناقهم”
“وصاروا العثمانية يكبسون الترب ويقبضون على المماليك الجراكسة منها، وكل تربة وجدوا فيها مملوكا جركسيا حزوا رأسه ورأس من بالتربة، فضرب في يوم واحد ثلاثمائة وعشرين رأسا من سكان الصحراء، وقيل كان فيهم جماعة من الينابعة وهم أشراف، فراحوا ظلما لا ذنب لهم”
“فلما كثرت رؤوس القتلى هناك نصبوا صواري وعليها حبال وعلقوا عليها رؤوس من قُتل من المماليك الجراكسة وغيرها، حتى قيل قُتِلَ في هذه الواقعة فوق الأربعة آلاف إنسان، ما بين مماليك جراكسة وغلمان، ومن عربان الشرقية والغربية”
“فلما كثرت العثمانية بالقاهرة، صاروا كل من رأوه من أولاد الناس لابسا لزمط أحمر أو تخفيفة يقولون له: أنت جركسي، فيقطعون رأسه”
“فكان ينادي (يعني سليم الأول) كل يوم في القاهرة بالأمان والاطمئنان، والنهب والقتل عمّال من جماعته لا يسمعون له، وحصل منه للناس الضرر الشامل، ومما أشيع عنه أنه قال في بعض مجالسه بين أخصائه وهو في الشام: إذا دخلت إلى مصر أحرق بيوتها وألعب في أهلها بالسيف”
“وصارت العثمانية يمسكون أولاد الناس من الطرقات ويقولون لهم: أنتم جراكسة، فيشهدون عندهم الناس أنهم ما هم مماليك جراكسة، فيقولون لهم: اشتروا أنفسكم منا من القتل، فيأخذون منهم بحسب ما يختارون من مبلغ”
(بدائع الزهور في وقائع الدهور – ابن إياس)
حاول السلطان وبقايا ممن بقوا إلى جواره مقاومة العثمانيين عند الجيزة، ثم اضطرتهم الهزيمة التالية للانسحاب إلى البحيرة، ليلقوا هزيمة أخيرة. بقي طومان باي وحده.. فتزيا بزي العربان، ولجأ لصديقه الشيخ حسن بن مرعي، شيخ إحدى قبائل العربان.. في ملجئه بدأ يفكر في سبل تنظيم مقاومة مسلحة ضد الغزاة، لكنه أفاق من خططه على تجريدة عثمانية اقتحمت عليه المكان، ليقع أسير خيانة من حسبه يحفظ آداب الضيافة وإغاثة الملهوف.. لم يحفظ ابن مرعي حتى سابق جميل طومان باي عليه، إذ شفع فيه يوما عند السلطان السابق، الذي كان ينتوي سجنه مدى الحياة.. خان الشيخ ابن مرعي كل شيء، حتى حلفانه سبع مرات على المصحف لطومان باي أنه لا يسلمه ولا يشي به.
أحضروه إلى بين يدي سليم الأول، فلم يجث ولم يرتعد، واجه الغازي بأنه ليس نادما على قتاله، وأنه ما كان ليدع الغازي يبتلع السلطنة لقمة سهلة.. حبسه العثماني سبعة عشر يوما.. لا يعرف لماذا تركه ولم يقتله فورا، لكنه عرف أن الخائنين جان بردي الغزالي وخاير بك – الذي كان سليم الأول يناديه بـ”خاين بك” – ألحا على سلطان العثمانيين في قتله، خشية منهما من تفكير سليم في أن يعرض على السلطان المهزوم حكم مصر واليا من قبله، فتفوتهما بعض مكافأة الخيانة.
ويقرر الطاغية العثمانلي إعدامه.
ويمضي آخر أبطال المماليك إلى مصيره رافعا رأسه، شاقا طريقه على رأس موكب الإعدام، ملقيا السلام على العامة الذين احتشدوا بأمر ابن عثمان ليروا مصير من يحاول مقاومة السيد الجديد للبلاد.. وأخيرا يصل إلى باب زويلة، فيلقي نظرة استهزاء على الحبل المعقودة أنشوطته بإحكام.. يلتفت إلى الجمهور ويقول لهم: “اقرأوا لي الفاتحة ثلاث مرات”، ويقرأها فيرددونها خلفه، ثلاث مرات.. ثم يلتفت للمشاعلي ويقول له بهدوء: “اعمل شغلك”.
وترفع المشنقة الجسد النبيل حتى يعلو كعباه رؤوس شناقيه.
ويصرخ الناس صرخة عظيمة.. وتنوح القاهرة.. تنوح مصر كلها باكية شهيدها الذاهب، ومصيرها الأسود القادم على يد عتاة أجلاف، كتب عليها القدر أن تذوق الضيم والويل على أيديهم قرونا.
ما بعد النهاية:
يغتصب العثمانيون مصر، ويتناوب عليها بكواتها وبشواتها، ممتصين خيرها ودم ناسها لثلاثة قرون إرضاء للسلاطين القابعين في القسطنطينية.. يغتصب سليم الأول لقب الخلافة زورا وبهتانا، ويورثه نسله.. وبعد أن كانت مصر سيدة الشرق صارت مجرد “إيالة” (ولاية)، يرسل لها السلاطين واليا كل بضعة أعوام، لينهب خيرها ويجلد أجساد أهلها لصالح أسياده العثمانلية، الذين مزقوا وحدة مصر والشام، وقطعوا بسكين بارد أوصال العالم العربي، الذي كان – تقريبا – مملكة واحدة، وزرعوا بين شعوبه الشقاق والفتن، ممهدين الطريق، عبر تلك القرون، للمستر والمسيو الأوروبيين لابتلاعها قطعة تلو الأخرى، في مأدبة اتفاقية سايكس بيكو لتقاسم تركة الرجل العثماني المحتضر.
سادت عصر الاحتلال العثماني للشرق حالة من الجمود الحضاري.. فبينما تزدحم الفترة من 1250م إلى 1517م بالأسماء البارزة في مختلف مجالات العلوم والفنون، والتي قدمتها المنطقة العربية الإسلامية في عصر المماليك، تكاد تخلو الفترة من 1517م إلى 1805م من أية أسماء تتردد في أرجاء العالم باعتبار أن أصحابها هم سفراء عبر الزمن من قِبَل الحضارة العربية الإسلامية.
والغريب أن يحاول البعض تبرير الاحتلال العثماني للمنطقة العربية بأن الدولة العثمانية قد تولت مسئولية حماية العالم العربي من الغزو الأوروبي.. كان هذا ليكون صحيحا لو لم يسلك العثمانيون سلوك الغزاة الأجانب، ويعتبرون الإنسان العربي عبدا لهم.. بينما هم في واقع الأمر قد جعلوا مهمة الاستعمار أكثر سهولة، بأن أضعفوا العرب حضاريا وسياسيا، بل وحتى إنسانيا..
كذلك ثمة من يبرر غزو العثمانيين للشام ومصر بأن أهل هذه البلاد قد استغاثوا بهم من ظلم المماليك في عهد قنصوة الغوري.. ويُرد على هذا التبرير الهَش بأن النشاط العدواني العثماني يرجع لما قبل عهد الغوري بفترة ليست بالقليلة، وقد كان يتمحور حول الطمع في بلاد الشام، ومحاولة تأليب الإمارات التركمانية القائمة في الأناضول لمهاجمة حلب والمناطق المتاخمة لها.. ثم إنه لو كان العثمانيون غيورين بهذا الشكل على “تعرض المسلمين للظلم”؛ فلماذا لم يتدخلوا بجيوشهم الجرارة لإنقاذ المسلمين المحاصرين في غرناطة قبل سقوطها؟ ولماذا أحبطوا الاتفاق بين قايتباي وسلطانهم بايزيد الثاني لإنقاذ ما تبقى من الأندلس، ووجهوا خيلهم وسلاحهم ضد المماليك؟
ولو كانوا قد جاءوا حقا لإنقاذ الناس من ظلم المماليك؛ فبِمَ يُبَرَر ظلمهم هم أنفسهم بحق شعوب المناطق التي احتلوها؟
لم يكن المماليك ملائكة، وكذلك لم يكونوا شياطين، ولكنهم في كل الأحوال قد أقاموا دولة عظيمة قدمت للعالم محتوى حضاري هائل، وتركت بصمة في الإدارة والحكم.. بالطبع فإنه من غير الممكن أو المقبول إنكار سلبياتها، من تحزبات، وشللية، وانقلابات، ومؤامرات، وفترات دموية، وحالات كثيرة من الظلم، بالذات الطبقي.. لكنها في المجمل كانت دولة “ذات بصمة”.. يمكنك أن تكرهها أو تحبها، لكنك لا تستطيع أن تتجاهلها، ولا أن تتجاهل خيط الدم المتصل فيها من أيبك وشجر الدر، حتى طومان باي الشهيد.

محتويات الموضوع