في منطقة تمتد على أرضها الزراعية بساتين النخيل الى ما لانهاية ، كتب القدر على عشرات الشباب أن يختفوا الى غير رجعة ، تاركين أهلهم نهباً للحزن والحيرة والقلق ، شباب في مقتبل الحياة في العشرينات من العمر تجمعهم مهنة مشتركة ، فكلهم سوّاق سيارات أجرة (تاكسي) .
ونظراً لكوني صحفيّ مُعتمد أُحاسَب على ما أنشر ، وبما أنني أيضاً لم أحصل على نسخة من الأوراق التحقيقية الخاصة بهذه القضية ولم أحصل على أي تصريح من مصدر رسمي ، فلن أتمكن من نشر أسماء شخوص هذه القصة ، وبإمكان من يعترض على النشر أن يتعامل معها على أنها قصة خيالية .
القصة تبدأ من شيخ يبدو أنه في مطلع الستينات يتعكز عكازة طبية تعينه على المسير ، يرتدي دشداشة (جلباباً) قهوائياً ، شعره أبيض تماماً ، مع لحية بيضاء ليست طويلة ، ورغم كونه يعرج من إحدى ساقيه إلا أنه يبدو قوي البنية وبكامل صحته .
وقف الشيخ على ناصية الشارع في إحدى المناطق الشعبية المشهورة شرق بغداد رافعاً يده لطلب تاكسي ، توقفت بقربه سيارة أجرة يقودها شاب قاده حظه العاثر إلى هذا الرجل الأشيب الذي خاطبه بنبرة شيخ طاعن في السن لا حول له ولا قوة " إلى منطقة كميرة يا ولدي ، كم تريد ؟ " ، رد الشاب بلطف " خمسة عشر " ، قال الشيخ وهو يفتح الباب " توكلنا على الله ".
كان ذلك الحوار القصير آخر ما سمعه صاحب الكشك الذي وقف الشيخ على بعد خطوتين منه ليستأجر التاكسي ، هذا ما أخبر به ذوي الشاب الذي اختفى أثره منذ ذلك الحين ، وأُقفل هاتفه النقال ولم يُعثر على سيارته رغم قيام مفارز ودوريات الشرطة بالبحث في منطقة (كميرة) شبراً شبراً .
وكميرة بالكاف الفارسية (گ) هي اللفظ العامي لكلمة (قميرة) بعد تأنيث القمر وتصغيره * ، وهي صفة تُطلق في العهود الغابرة على الفتاة الجميلة تشبيها لها بالقمر ، ورغم جمال بساتين منطقة كميرة كما أسلفنا ، إلا أنها تصلح لتكون مسرحاً لجرائم القتل والاغتصاب والتسليب نظراً لكونها في أقصى أطراف المدينة ومنقطعة عن بقية المناطق ، مع صعوبة فرض الرقابة الأمنية عليها على نحو جيد لكثافة بساتينها ، ويقال أن سكانها الذين تفصل بين منزل الشخص ومنزل جاره مسافة طويلة يغلقون أبوابهم ولا يغادرون منازلهم مطلقاً عند غروب الشمس ، إلا في الحالات الطارئة وحالات الولادة التي قد تضطرهم للاتصال بالقوات الأمنية لترسل معهم دورية مدججة بالسلاح ترافقهم إلى المستشفى .
ولعل وسائل الإعلام أخطأت عندما لم تتعامل مع حادثة اختفاء هذا الشاب بما تستحقه من أهمية ، فماذا يعني اختفاء سائق سيارة أجرة في هذا البلد الساخن الحافل بالعنف ! قد تكون رصاصة طائشة أردتْهُ قتيلاً !
ومن هنا ، كان لعدم تسليط الضوء على هذه الحادثة دور في جعل الحالة تتكرر عدة مرات ، ومعظم سواق التاكسي الذين اختفوا تم استئجارهم من المنطقة الشعبية ذاتها (الواقعة شرق بغداد) ، فلو علمَ الجناة أن ثمة ضجة إعلامية حول سلسلة حوادث الاختفاء لارتدعوا وما كرروها بذات الطريقة ومع أشخاص في ذات المنطقة الفقيرة التي من أسهل استدراج سائق التاكسي فيها إلى حتفه بخمسة عشر ألف دينار (تقريبا 12 دولار) ! .
في أربيل
في مساء يومٍ صيفي ، كان أحمد (اسم افتراضي) يتمشى في أحد شوارع محافظة أربيل (عاصمة إقليم كردستان/ شمال العراق) ، إذ كان قد جاء إلى الإقليم في رحلة عمل لمدة شهر ليعود بعدها إلى مدينته بغداد .
كان كل شيء عادياً قبل مروره قرب أحد المقاهي وسط المدينة الكردية المكتظة بالسياح العرب ، لمح أحمد سيارة تاكسي مركونة بالقرب من المقهى ، لم تكن لوحة تسجيلها التي تحمل اسم (بغداد) ما لفت نظره إليها ، فثمة مئات السيارات تحمل أرقاماً بغدادية تتجول في إقليم كردستان صباحاً ومساءاً ، لكن ما أثار اهتمامه وجعل قلبه يدق سريعاً هو شكل السيارة الذي يعرفه جيداً ، اللصقات التي تزين جانبيها والتي قام صاحب محل كماليات السيارات بقصّها على هذا الشكل المزخرف ولصقها على السيارة ، بقية العلامات التي تزينها ، كلها أشياء تختص بها سيارة صديقه الذي اختفى منذ أكثر من ستة شهور !
أين صديقه الذي اختفى تاركاً وراءه أمّاً تنتحب وأباً جزعاً وإخوة يائسين من معرفة مصيره الغامض ؟! ما الذي أتى بسيارة صديقه إلى أربيل وهو كان يكره السفر ولم يزر إقليم كردستان مطلقاً ؟!
تصرّف أحمد بذكاء ، أبلغ أوّل شرطي كردي صادفه في الشارع بأن هذه السيارة المركونة تعود لشاب من سكنة بغداد اختفى منذ ستة أشهر ، فما كان من الشرطي إلا أن نادى بجهاز اللاسلكي طالباً حضور قوات الأمن الكردية (الآسايش) الى المكان على الفور .
وما هي إلا ثلاث دقائق حتى وصلت العشرات من سيارات قوات الآسايش وحاصرت المنطقة من جميع الجهات تحسباً لأي طارئ ، فيما ترجّل عدد منهم واقتحموا المقهى ، سأل الضابط بصوت جهوري وباللغة العربية " من صاحب تلك السيارة ؟ " ، رد عليه شاب من القومية العربية قائلاً " أنا " .
طلب منه الضابط إبراز أوراقه الثبوتية ، فأبرز له بطاقة هويته وسنوية السيارة (المسجلة بإسمه !!! ) .
اقتيد الشاب إلى مقر قوات الآسايش وتم توقيفه على ذمة التحقيق ، فيما تم التحفظ على السيارة ، وفي غضون ذلك اتصل أحمد بعائلة صديقه المختفي ليخبرهم بخبر كان له وقع الصاعقة عليهم " عثرتُ على سيارة ابنكم ! ".
التحقيق
استغرب المسئولون في قوات الآسايش من رواية أحمد ، ولولا أنهم أنهم سمعوا صوته الأم المفجوعة تصرخ وتنتحب عبر الهاتف لأطلقوا سراح الشاب الذي يدعي أنه المالك الشرعي للسيارة ولاعتقلوا أحمد بتهمة بلاغ كاذب .
كانت القصة تنطوي على شيء من الغرابة ، كل الأوراق الثبوتية مسجلة بإسم الشاب الذي تم اعتقاله في المقهى ، كل شيء قانوني ولا غبار عليه ، لكن ثمة من يدّعون أن السيارة تعود لشاب بغدادي فُقد أثره منذ مدة ، من يفك طلاسم القضية ؟!
أحمد نقل إلى الضابط الكردي رواية صاحب الكشك الذي سمع حوار الرجل الأعرج مع الشاب المفقود ، يرجح أن الشاب اختفى في منطقة تدعى كميرة أو في مكان ما بالقرب منها .
أدار الضابط الكردي تحقيقاً مطولاً مع المشبه به ، بطريقة تتصف بالحرفية والمهارة ، وضعه وسط كابوس من الأسئلة ، وفي النهاية صعقه بالسؤال عن منطقة كميرة التي ما ان سمع الشاب اسمها حتى انتفض (كعصفورٍ بللّهُ القطْرُ) كما يقول الشاعر ، ولعل ثمة طرق خاصة ساعدت في جعله يفصح عن الحقيقة المخفية.
في النهاية ، إنهار المشتبه به ، قال باكياً " لم أقتل ، لم أزوّر ، استلمتُ وثائق السيارة التي اشتريتها بعد أن قام أحد أفراد العصابة بتزويرها وتسجيلها بإسمي ".
- " لكنك كنتَ تعرف من أين يجيئون بالسيارات ، وتشتريها رغم ذلك " ، قال الضابط بحزم ، رد المشتبه به بنبرة باكية " كانوا... يذبحونهم ..! ".
قامت قوات الآسايش بتدوين اعترافات المشتبه به باللغة العربية وإرسال نسخة منها إلى قوات الشرطة الاتحادية ، مع ترحيل المشتبه به إلى بغداد وإرسال السيارة المسروقة أيضاً ، وبذلك انتقل ملف التحقيق إلى العاصمة بغداد ، أي ميدان الجريمة.
في صبيحة يومٍ صيفي مشمس ، توجه رتل ضخم يضم العشرات من سيارات وآليات الشرطة الاتحادية والشرطة المحلية إلى منطقة كميرة للمرة الثانية ، فقد قاموا بمداهمتها في الماضي دون العثور على طرف خيط يوصل إلى مصير الشاب المفقود ، لكن هذا العدد الكبير من رجال الشرطة يعرفون أين يتوجهون اليوم ، إنهم ذاهبون إلى منزل محدد ، ولهذا الغرض تم تطويق جميع الطرق المؤدية إلى ذلك المنزل ، مع محاصرة المنطقة والتأكد من هوية الداخلين إليها وعدم السماح لأي شخص بالخروج منها إلى حين انتهاء العملية الأمنية ، كان يوماً ملحمياً يتذكره كل شرطي شارك فيه .
مقبرة جماعية
فور تسرب الأنباء عن قصة سائق التاكسي المفقود والعملية الأمنية الضخمة التي يتم تنفيذها في منطقة كميرة ، توافدت عشرات العوائل المفجوعة إلى مراكز الشرطة لتجدد المطالبة بمعلومات عن مصير أبنائها الذين فقدوا بذات الطريقة ، كلهم كانوا سواق سيارات أجرة في مقتبل الشباب ، تم استئجارهم وانطلقوا الى جهة مجهولة واختفوا منذ ذلك الحين ، ليس ذلك فقط ، بل ظهر شهود إضافيين شاهدوا الرجل الأشيب ذو العكازة يستأجر الضحايا وينطلق بهم إلى حتفهم .
الشرطة اقتحمت منزلاً كبيراً ذو فناء واسع محاط بسياج عالٍ من الأعمدة ، واعتقلت جميع من في المنزل وربطت أعينهم وكبلت أيديهم إلى الخلف ، واقتادتهم إلى إحدى الدوائر التحقيقية ، وهناك اعترفوا أمام قاضي التحقيق بأنهم متورطون بسرقة العشرات من سيارات الأجرة بطريقة مبتكرة وقتل أصحابها ، إذ يقوم الرجل الأشيب الذي يكنى بـ (أبي عكازة) باستئجارهم إلى هذه المنطقة النائية ، وغالباً ما يتصل بأفراد العصابة أثناء الطريق ليقول لهم " أنا قادم ، أحمد الله وأشكره إذ أرسل لي هذا الشاب الطيب لمساعدتي وإيصالي ، بارك الله بهذا الشاب سليل الأصل الطيب وصاحب الخلق الكريم ، يقود سيارة نوع كذا وموديل كذا.. " وهذه إشارة أو شيفرة خاصة متفق عليها ، وفور الوصول إلى منطقة كميرة يقول للسائق " بارك الله فيك يا ولدي ، أنا رجل كبير وعاجز وبالكاد أستطيع المشي بمساعدة عكازي ، هلا أوصلتني إلى الباب الداخلي لمنزلي ؟ " ، وما أن يدخل السائق المسكين بسيارته إلى فناء المنزل حتى يُغلق الباب الخارجي ويحيط بالسيارة أفراد العصابة ويجبروه على الترجل منها تحت تهديد السلاح ، ومن ثم يكبلون يديه ويعصبون عينيه ويقتادونه إلى مكان حفروا فيه حفرة في وقت سابق ، وهناك ، وفي مشهد شديد القسوة ، يمددون الضحية قرب الحفرة استعداداً لنحره ، والمفاجأة ان الرجل الأشيب (أبو عكازة) هو من يتولى بنفسه عملية ذبحه بسكين حادة أعدت مسبقاً لهذه الطقوس الدموية ، وبعد إزهاق روح الضحية يلقون به في الحفرة ويهيلون عليه التراب ، الجناة تحدثوا لقاضي التحقيق أنهم تفاجئوا أكثر من مرة بمدى ساديّة ووحشية أبي عكازة الذي ينحر ضحاياه وكأنه يذبح دجاجة ، كان يستمتع بحزّ رقاب هؤلاء الفتية المساكين الساعين وراء رزقهم .
الجناة اعترفوا أيضاً بأنهم متخصصين بتزوير الأوراق الثبوتية الخاصة بالسيارات المسروقة بطريقة احترافية مذهلة مستخدمين الأجهزة التي تم ضبطها في المنزل ، ليقوموا بعد ذلك ببيعها مع أوراق ثبوتية جديدة دون الاضطرار الى تغيير لوحات أرقامها .
الشرطة اقتادوا الجناة مجدداً إلى منطقة كميرة للكشف عن أماكن دفن الضحايا ، وهناك تم اكتشاف مقبرة جماعية تضم عشرات الجثث ، بالإضافة إلى قبور منفردة في أماكن ليست بعيدة عن المنزل .
ووسط أصوات النحيب وصرخات الأمهات الثكالى ، تسلمت العوائل جثامين أبنائها من دائرة الطب العدلي بعد أن تم الكشف عليها والتأكد من هوية كل جثة وإكمال الإجراءات الرسمية بشأنها .
ملف القضية لم يغلق حتى الآن ، فمازال عنصر رئيسي في القصة مجهول المكان ، هو الرجل ذو العكاز أو (أبو عكازة) ، إذ لم يكن متواجداً في المنزل لحظة اقتحامه من قبل الشرطة ، وفشلت كل الكمائن في اصطياده ، والله وحده يعلم أين هو الآن ، ولأي شيء يخطط !.
------------------------------
* في اللهجة الدارجة العراقية عادة ما يقلبون حرف القاف إلى (گ) أثناء الكلام , وهذا الحرف لا وجود له في اللغة العربية مع أنه موجود في معظم اللهجات العربية الدارجة , هو شبيه تماما بالجيم المصرية , مع فارق الاستعمال , حيث المصريين يستعملونه للجيم بينما العراقيين للقاف , وهو مرادف لحرف G بالإنجليزية كما في كلمتي Go و English , فيقال گلبي تعبان بمعنى قلبي تعبان , ويقال گميرة بمعنى قميرة .
ونظراً لكوني صحفيّ مُعتمد أُحاسَب على ما أنشر ، وبما أنني أيضاً لم أحصل على نسخة من الأوراق التحقيقية الخاصة بهذه القضية ولم أحصل على أي تصريح من مصدر رسمي ، فلن أتمكن من نشر أسماء شخوص هذه القصة ، وبإمكان من يعترض على النشر أن يتعامل معها على أنها قصة خيالية .
القصة تبدأ من شيخ يبدو أنه في مطلع الستينات يتعكز عكازة طبية تعينه على المسير ، يرتدي دشداشة (جلباباً) قهوائياً ، شعره أبيض تماماً ، مع لحية بيضاء ليست طويلة ، ورغم كونه يعرج من إحدى ساقيه إلا أنه يبدو قوي البنية وبكامل صحته .
وقف الشيخ على ناصية الشارع في إحدى المناطق الشعبية المشهورة شرق بغداد رافعاً يده لطلب تاكسي ، توقفت بقربه سيارة أجرة يقودها شاب قاده حظه العاثر إلى هذا الرجل الأشيب الذي خاطبه بنبرة شيخ طاعن في السن لا حول له ولا قوة " إلى منطقة كميرة يا ولدي ، كم تريد ؟ " ، رد الشاب بلطف " خمسة عشر " ، قال الشيخ وهو يفتح الباب " توكلنا على الله ".
كان ذلك الحوار القصير آخر ما سمعه صاحب الكشك الذي وقف الشيخ على بعد خطوتين منه ليستأجر التاكسي ، هذا ما أخبر به ذوي الشاب الذي اختفى أثره منذ ذلك الحين ، وأُقفل هاتفه النقال ولم يُعثر على سيارته رغم قيام مفارز ودوريات الشرطة بالبحث في منطقة (كميرة) شبراً شبراً .
وكميرة بالكاف الفارسية (گ) هي اللفظ العامي لكلمة (قميرة) بعد تأنيث القمر وتصغيره * ، وهي صفة تُطلق في العهود الغابرة على الفتاة الجميلة تشبيها لها بالقمر ، ورغم جمال بساتين منطقة كميرة كما أسلفنا ، إلا أنها تصلح لتكون مسرحاً لجرائم القتل والاغتصاب والتسليب نظراً لكونها في أقصى أطراف المدينة ومنقطعة عن بقية المناطق ، مع صعوبة فرض الرقابة الأمنية عليها على نحو جيد لكثافة بساتينها ، ويقال أن سكانها الذين تفصل بين منزل الشخص ومنزل جاره مسافة طويلة يغلقون أبوابهم ولا يغادرون منازلهم مطلقاً عند غروب الشمس ، إلا في الحالات الطارئة وحالات الولادة التي قد تضطرهم للاتصال بالقوات الأمنية لترسل معهم دورية مدججة بالسلاح ترافقهم إلى المستشفى .
ولعل وسائل الإعلام أخطأت عندما لم تتعامل مع حادثة اختفاء هذا الشاب بما تستحقه من أهمية ، فماذا يعني اختفاء سائق سيارة أجرة في هذا البلد الساخن الحافل بالعنف ! قد تكون رصاصة طائشة أردتْهُ قتيلاً !
ومن هنا ، كان لعدم تسليط الضوء على هذه الحادثة دور في جعل الحالة تتكرر عدة مرات ، ومعظم سواق التاكسي الذين اختفوا تم استئجارهم من المنطقة الشعبية ذاتها (الواقعة شرق بغداد) ، فلو علمَ الجناة أن ثمة ضجة إعلامية حول سلسلة حوادث الاختفاء لارتدعوا وما كرروها بذات الطريقة ومع أشخاص في ذات المنطقة الفقيرة التي من أسهل استدراج سائق التاكسي فيها إلى حتفه بخمسة عشر ألف دينار (تقريبا 12 دولار) ! .
في أربيل
في مساء يومٍ صيفي ، كان أحمد (اسم افتراضي) يتمشى في أحد شوارع محافظة أربيل (عاصمة إقليم كردستان/ شمال العراق) ، إذ كان قد جاء إلى الإقليم في رحلة عمل لمدة شهر ليعود بعدها إلى مدينته بغداد .
كان كل شيء عادياً قبل مروره قرب أحد المقاهي وسط المدينة الكردية المكتظة بالسياح العرب ، لمح أحمد سيارة تاكسي مركونة بالقرب من المقهى ، لم تكن لوحة تسجيلها التي تحمل اسم (بغداد) ما لفت نظره إليها ، فثمة مئات السيارات تحمل أرقاماً بغدادية تتجول في إقليم كردستان صباحاً ومساءاً ، لكن ما أثار اهتمامه وجعل قلبه يدق سريعاً هو شكل السيارة الذي يعرفه جيداً ، اللصقات التي تزين جانبيها والتي قام صاحب محل كماليات السيارات بقصّها على هذا الشكل المزخرف ولصقها على السيارة ، بقية العلامات التي تزينها ، كلها أشياء تختص بها سيارة صديقه الذي اختفى منذ أكثر من ستة شهور !
أين صديقه الذي اختفى تاركاً وراءه أمّاً تنتحب وأباً جزعاً وإخوة يائسين من معرفة مصيره الغامض ؟! ما الذي أتى بسيارة صديقه إلى أربيل وهو كان يكره السفر ولم يزر إقليم كردستان مطلقاً ؟!
تصرّف أحمد بذكاء ، أبلغ أوّل شرطي كردي صادفه في الشارع بأن هذه السيارة المركونة تعود لشاب من سكنة بغداد اختفى منذ ستة أشهر ، فما كان من الشرطي إلا أن نادى بجهاز اللاسلكي طالباً حضور قوات الأمن الكردية (الآسايش) الى المكان على الفور .
وما هي إلا ثلاث دقائق حتى وصلت العشرات من سيارات قوات الآسايش وحاصرت المنطقة من جميع الجهات تحسباً لأي طارئ ، فيما ترجّل عدد منهم واقتحموا المقهى ، سأل الضابط بصوت جهوري وباللغة العربية " من صاحب تلك السيارة ؟ " ، رد عليه شاب من القومية العربية قائلاً " أنا " .
طلب منه الضابط إبراز أوراقه الثبوتية ، فأبرز له بطاقة هويته وسنوية السيارة (المسجلة بإسمه !!! ) .
اقتيد الشاب إلى مقر قوات الآسايش وتم توقيفه على ذمة التحقيق ، فيما تم التحفظ على السيارة ، وفي غضون ذلك اتصل أحمد بعائلة صديقه المختفي ليخبرهم بخبر كان له وقع الصاعقة عليهم " عثرتُ على سيارة ابنكم ! ".
التحقيق
استغرب المسئولون في قوات الآسايش من رواية أحمد ، ولولا أنهم أنهم سمعوا صوته الأم المفجوعة تصرخ وتنتحب عبر الهاتف لأطلقوا سراح الشاب الذي يدعي أنه المالك الشرعي للسيارة ولاعتقلوا أحمد بتهمة بلاغ كاذب .
كانت القصة تنطوي على شيء من الغرابة ، كل الأوراق الثبوتية مسجلة بإسم الشاب الذي تم اعتقاله في المقهى ، كل شيء قانوني ولا غبار عليه ، لكن ثمة من يدّعون أن السيارة تعود لشاب بغدادي فُقد أثره منذ مدة ، من يفك طلاسم القضية ؟!
أحمد نقل إلى الضابط الكردي رواية صاحب الكشك الذي سمع حوار الرجل الأعرج مع الشاب المفقود ، يرجح أن الشاب اختفى في منطقة تدعى كميرة أو في مكان ما بالقرب منها .
أدار الضابط الكردي تحقيقاً مطولاً مع المشبه به ، بطريقة تتصف بالحرفية والمهارة ، وضعه وسط كابوس من الأسئلة ، وفي النهاية صعقه بالسؤال عن منطقة كميرة التي ما ان سمع الشاب اسمها حتى انتفض (كعصفورٍ بللّهُ القطْرُ) كما يقول الشاعر ، ولعل ثمة طرق خاصة ساعدت في جعله يفصح عن الحقيقة المخفية.
في النهاية ، إنهار المشتبه به ، قال باكياً " لم أقتل ، لم أزوّر ، استلمتُ وثائق السيارة التي اشتريتها بعد أن قام أحد أفراد العصابة بتزويرها وتسجيلها بإسمي ".
- " لكنك كنتَ تعرف من أين يجيئون بالسيارات ، وتشتريها رغم ذلك " ، قال الضابط بحزم ، رد المشتبه به بنبرة باكية " كانوا... يذبحونهم ..! ".
قامت قوات الآسايش بتدوين اعترافات المشتبه به باللغة العربية وإرسال نسخة منها إلى قوات الشرطة الاتحادية ، مع ترحيل المشتبه به إلى بغداد وإرسال السيارة المسروقة أيضاً ، وبذلك انتقل ملف التحقيق إلى العاصمة بغداد ، أي ميدان الجريمة.
في صبيحة يومٍ صيفي مشمس ، توجه رتل ضخم يضم العشرات من سيارات وآليات الشرطة الاتحادية والشرطة المحلية إلى منطقة كميرة للمرة الثانية ، فقد قاموا بمداهمتها في الماضي دون العثور على طرف خيط يوصل إلى مصير الشاب المفقود ، لكن هذا العدد الكبير من رجال الشرطة يعرفون أين يتوجهون اليوم ، إنهم ذاهبون إلى منزل محدد ، ولهذا الغرض تم تطويق جميع الطرق المؤدية إلى ذلك المنزل ، مع محاصرة المنطقة والتأكد من هوية الداخلين إليها وعدم السماح لأي شخص بالخروج منها إلى حين انتهاء العملية الأمنية ، كان يوماً ملحمياً يتذكره كل شرطي شارك فيه .
مقبرة جماعية
فور تسرب الأنباء عن قصة سائق التاكسي المفقود والعملية الأمنية الضخمة التي يتم تنفيذها في منطقة كميرة ، توافدت عشرات العوائل المفجوعة إلى مراكز الشرطة لتجدد المطالبة بمعلومات عن مصير أبنائها الذين فقدوا بذات الطريقة ، كلهم كانوا سواق سيارات أجرة في مقتبل الشباب ، تم استئجارهم وانطلقوا الى جهة مجهولة واختفوا منذ ذلك الحين ، ليس ذلك فقط ، بل ظهر شهود إضافيين شاهدوا الرجل الأشيب ذو العكازة يستأجر الضحايا وينطلق بهم إلى حتفهم .
الشرطة اقتحمت منزلاً كبيراً ذو فناء واسع محاط بسياج عالٍ من الأعمدة ، واعتقلت جميع من في المنزل وربطت أعينهم وكبلت أيديهم إلى الخلف ، واقتادتهم إلى إحدى الدوائر التحقيقية ، وهناك اعترفوا أمام قاضي التحقيق بأنهم متورطون بسرقة العشرات من سيارات الأجرة بطريقة مبتكرة وقتل أصحابها ، إذ يقوم الرجل الأشيب الذي يكنى بـ (أبي عكازة) باستئجارهم إلى هذه المنطقة النائية ، وغالباً ما يتصل بأفراد العصابة أثناء الطريق ليقول لهم " أنا قادم ، أحمد الله وأشكره إذ أرسل لي هذا الشاب الطيب لمساعدتي وإيصالي ، بارك الله بهذا الشاب سليل الأصل الطيب وصاحب الخلق الكريم ، يقود سيارة نوع كذا وموديل كذا.. " وهذه إشارة أو شيفرة خاصة متفق عليها ، وفور الوصول إلى منطقة كميرة يقول للسائق " بارك الله فيك يا ولدي ، أنا رجل كبير وعاجز وبالكاد أستطيع المشي بمساعدة عكازي ، هلا أوصلتني إلى الباب الداخلي لمنزلي ؟ " ، وما أن يدخل السائق المسكين بسيارته إلى فناء المنزل حتى يُغلق الباب الخارجي ويحيط بالسيارة أفراد العصابة ويجبروه على الترجل منها تحت تهديد السلاح ، ومن ثم يكبلون يديه ويعصبون عينيه ويقتادونه إلى مكان حفروا فيه حفرة في وقت سابق ، وهناك ، وفي مشهد شديد القسوة ، يمددون الضحية قرب الحفرة استعداداً لنحره ، والمفاجأة ان الرجل الأشيب (أبو عكازة) هو من يتولى بنفسه عملية ذبحه بسكين حادة أعدت مسبقاً لهذه الطقوس الدموية ، وبعد إزهاق روح الضحية يلقون به في الحفرة ويهيلون عليه التراب ، الجناة تحدثوا لقاضي التحقيق أنهم تفاجئوا أكثر من مرة بمدى ساديّة ووحشية أبي عكازة الذي ينحر ضحاياه وكأنه يذبح دجاجة ، كان يستمتع بحزّ رقاب هؤلاء الفتية المساكين الساعين وراء رزقهم .
الجناة اعترفوا أيضاً بأنهم متخصصين بتزوير الأوراق الثبوتية الخاصة بالسيارات المسروقة بطريقة احترافية مذهلة مستخدمين الأجهزة التي تم ضبطها في المنزل ، ليقوموا بعد ذلك ببيعها مع أوراق ثبوتية جديدة دون الاضطرار الى تغيير لوحات أرقامها .
الشرطة اقتادوا الجناة مجدداً إلى منطقة كميرة للكشف عن أماكن دفن الضحايا ، وهناك تم اكتشاف مقبرة جماعية تضم عشرات الجثث ، بالإضافة إلى قبور منفردة في أماكن ليست بعيدة عن المنزل .
ووسط أصوات النحيب وصرخات الأمهات الثكالى ، تسلمت العوائل جثامين أبنائها من دائرة الطب العدلي بعد أن تم الكشف عليها والتأكد من هوية كل جثة وإكمال الإجراءات الرسمية بشأنها .
ملف القضية لم يغلق حتى الآن ، فمازال عنصر رئيسي في القصة مجهول المكان ، هو الرجل ذو العكاز أو (أبو عكازة) ، إذ لم يكن متواجداً في المنزل لحظة اقتحامه من قبل الشرطة ، وفشلت كل الكمائن في اصطياده ، والله وحده يعلم أين هو الآن ، ولأي شيء يخطط !.
------------------------------
* في اللهجة الدارجة العراقية عادة ما يقلبون حرف القاف إلى (گ) أثناء الكلام , وهذا الحرف لا وجود له في اللغة العربية مع أنه موجود في معظم اللهجات العربية الدارجة , هو شبيه تماما بالجيم المصرية , مع فارق الاستعمال , حيث المصريين يستعملونه للجيم بينما العراقيين للقاف , وهو مرادف لحرف G بالإنجليزية كما في كلمتي Go و English , فيقال گلبي تعبان بمعنى قلبي تعبان , ويقال گميرة بمعنى قميرة .