«تشير التقديرات إلى أن أمراض المناعة الذاتية هي من أبرز عشرة أسباب للوفاة بين النساء في جميع الأعمار حتى 65 سنة».
الجهاز المناعى هو منظومة معقدة عالية التخصص والكفاءة، تتكون من بلايين الخلايا التي تخوض في كل لحظة حربًا لا هوادة فيها ضد الغُزاة، الذين يحاولون في كل لحظة أن يخترقوا أجسادنا، مثل البكتيريا والفيروسات والطفيليات وكذلك الخلايا السرطانية؛ ليلحقوا بها الضرر.
لكي نفهم طبيعة الأمراض المناعية «Autoimmune diseases» سنتحدث بشيء من التفصيل عن جزء من المنظومة المناعية، وهو المناعة المكتسبة «Acquired or adaptive immunity».
أولًا تقوم خلايا جذعية مصنوعة في نخاع العظم بالانتقال إلى الغدة التيموسية -غدة في الصدر تكون كبيرة عند الأطفال وتستمر في الضمور طوال فترة المراهقة- لتنضج ولتصبح خلايا متخصصة لها دور محدد في المعركة، هذه الغدة بمثابة كلية حربية تُخرّج ثلاثة أنواع من الجنود.
النوع الأول وهو خلايا «استخباراتية» «T-Helper» تتجوّل في أنحاء الجسد، وحينما تعثر على بكتيريا أو فيروسات أو أي أجسام دقيقة ضارة؛ فإنها تستدعي الأجسام المضادة «Anti bodies» المنتجَة بواسطة الخلايا الليمفاوية بي «B-Lymphocytes»، هذه الأجسام المضادة متخصصة جدًا؛ حيث إنها تلتصق بمضادات الجين «Anti gen» الموجودة على سطح الأجسام الضارة، فتوقفها ومن ثمّ تقتلها.
كما تستدعي أيضًا الخلايا المقاتلة، وهي النوع الثاني من الخلايا T، وتسمى «T-Cytotoxic»، التي تتخلص من العدو عن طريق إفراز مواد كيميائية سامة وتقوم بإخراجه من الجسم.
أما النوع الثالث فهو الخلايا المنظِّمة T-Regulatory، ووظيفتها أنها تتعرف على ما هو من مكونات الجسم وما هو غريب عنه، وحينما تجد الأجسام الغريبة فإنها ترسل إشارات إلى خلايا «T-Helper» -الخلايا الاستخباراتية- التي بدورها تحفّز جهاز المناعة.
في الأمراض المناعية يحدث الخلل على مستوى هذين النوعين من الخلايا وهما «T-helper» و«T-regulatory». الأولى بشكل خاطئ تعتقد أن مكونات الجسد غريبة عنه؛ وعلى هذا الأساس تقوم الثانية باستدعاء الجهاز المناعي إلى المعركة الخاطئة التي يقوم فيها بمهاجمة خلاياه وأنسجته بدلًا من الدفاع عنها مُحْدِثًا المرض.
لكن ما هو سبب الخلل؟ نظريات كثيرة وُضِعَت لتفسر هذه الظاهرة، منها مثلًا عوامل جينية وراثية (بعض الأمراض المناعية لها تاريخ مرضي في العائلة)، وعوامل بيئية (التعرض لمركبات السليكا يسبب مرض تصلب الجلد «scleroderma»)، الهرمونات أيضًا تلعب دورًا (مرض الذئبة الحمراء والذي يصيب النساء بنسبة 9 : 1 إلى الرجال)، والأدوية (بعض صبغات الشعر)، والعدوى (بعض الأمراض المناعية تحدث بعد الإصابة بالعدوى الفيروسية)، ولكن تبقى كلها نظريات ويبقى السبب مجهولًا.
خصائص الأمراض المناعية
هناك سمات مشتركة بين كثير من الأمراض المناعية، منها على سبيل المثال:
أنها تؤثر على العديد من أجهزة الجسم وعلى وظائفها، وإن كان هناك أمراض مناعية تفضّل أن تصيب جهازًا واحدًا دون البقية.
تتميز بفترات من الخمود «تتحسن فيها حالة المريض وتقل فيها أعراض المرض»، وفترات من التفاقم «وهي فترات تزيد فيها حدة المرض وتصبح خلالها الأعراض شديدة».
هناك أعراض مشتركة بين الأمراض المناعية، مثل الشعور بالتوعّك والإجهاد والتعب وارتفاع طفيف في درجة الحرارة؛ وذلك بسبب الالتهابات التي تسببها الأمراض المناعية وكذلك آلام المفاصل، وهي مشتركة في كثير من هذه الأمراض.
قد يجتمع أكثر من مرض مناعي في شخص واحد.
أمثلة للأمراض المناعية
1. مرض التهاب المفاصل الروماتويدي «Rhumatoid Arthritis»، هذا المرض يصيب النساء أكثر من الرجال بنسبة 3 : 1، ويسبب آلاما مزمنة في المفاصل خصوصًا مفاصل اليد بطريقة متساوية على الناحيتين، وتيبُّس خصوصًا عند الصباح، ثم بعد ذلك تبدأ التورّمات ثم التشوهات التي تسبب إعاقة للمريض.
2. مرض الذئبة الحمراء «Systemic Lupus Erythromatosis»، وهذا المرض يصيب النساء أكثر من الرجال بنسبة 9 : 1، وخصوصًا النساء من فترة البلوغ وحتى سن 40 سنة. يتميز بارتفاع في درجة الحرارة وآلام في المفاصل مع ظهور طفح جلدي خصوصًا في الوجه؛ هذه الأعراض تجعلنا نشك بهذا المرض، ثم بعد ذلك تُجرى الفحوصات للتأكد من التشخيص.
هذا المرض من الممكن أن يتسبب في حالة اكتئاب شديدة خاصة لدى السيدات الحوامل، كما أنه من الممكن أن يصيب الجهاز التنفسي ليسبب التهابات وارتشاحا في الغشاء البلوري (الغلاف المحيط بالرئة) أو التهاب رئوي، لكن تبقى أخطر مضاعفاته عندما يسبب التهابات في الكُلى؛ وحينها تكون الأعراض على شكل تورّم في الجفون والساقين وارتفاع في ضغط الدم، وفي بعض الأحيان يتغير لون البول ويصبح داكنًا، وفي حالة إهمال الحالة يصاب المريض بالفشل الكلوي.
3. مرض التصلب العصبي المتعدد «Multiple Sclerosis»: هذا المرض يصيب الجهاز العصبي المركزي «المخ والحبل الشوكي»؛ ويُصاب به المريض عندما تقوم خلايا مناعية ليمفاوية بمهاجمة غشاء الميلين، وهو عبارة عن مادة دهنية تحمي وتساعد على سرعة إيصال الإشارات العصبية من المخ إلى أجزاء الجسم؛ مما يساعد على تحرك الجسم بشكل طبيعي، ويمكن تمثيلها بالغلاف البلاستيكي الواقي لأسلاك الكهرباء، واستجابة لمستضدات غير معروفة تبدأ كريات دم بيضاء لمفاوية بمهاجمة صفائح الميلين مسببة زواله؛ مما يصعّب ويعيق حركة الإشارات العصبية وينتج عنه التصلب. وسبب تسميته هو التكوين المستديم للويحات (البقع البيضاء التي تظهر في صورة الرنين المغناطيسي MRI) زوال الميلين في الجهاز العصبي المركزي، وهي التي تُشكل آفة المرض.
أعراضه: الأعراض التي تظهر تعتمد على المنطقة المصابة في الجهاز العصبي المركزي، كل مصاب يُعتبر حالة خاصة وليس هناك نمط معين للمرض، فمن الممكن أن يؤثر على الرؤية، وعلى التوازن وحركة الجسم، والنطق والكلام، والتحكم في البول والبراز، كما يتسبب في العجز الجنسي.
4. الصدفية «Psoriasis»: مرض مناعي يصيب الجلد، مزمن لكنه غير مُعْدٍ، يسبّب التهابا بالجلد وظهور بقع حمراء تغطيها قشور ذات لون فضي مثل الصدف ولها أحجام مختلفة، وتظهر غالبًا على فروة الرأس والركبتين والمرفقين وعلى أظافر اليدين والقدمين والصدر، وتؤدي إلى حكّة شديدة في الجلد وتغير لونه.
5. مرض السكري من النوع الأول «Type 1 diabetes»: يحدث هذا النوع من السكر عندما يتوقف البنكرياس عن إنتاج الأنسولين؛ نتيجة مهاجمة جهاز المناعة لخلايا بيتا المنتجِة للأنسولين وإتلافها، يُعتقَد أن عملية مهاجمة جهاز المناعة للبنكرياس تبدأ في سن مبكرة في حياة الطفل، وتستمر لسنوات حتى تظهر الأعراض في مرحلة الطفولة أو المراهقة. ليس هذا فحسب، وإنما من الممكن أن يقوم جهاز المناعة بمهاجمة خلايا بيتا المنتجِة للأنسولين عند البالغين مسبّبًا مرض السكري الذي يُعرف في هذه الحالة بـ«Latent autoimmune diabetes in Adults» أو السكر المناعي الذي يصيب البالغين.
هؤلاء المرضى وإن كانوا في بداية الأمر لا يحتاجون للأنسولين في العلاج، إلا أنه مع تقدم المرض وتدمير كل الخلايا المنتجة للأنسولين في البنكرياس والذي يستغرق سنوات؛ يكون العلاج الوحيد لهؤلاء المرضى هو الأنسولين.
كيف تتعايش مع مرض مناعي؟
أخيرًا، بقي فقط أن ننوّه بأن هذه الأمراض منتشرة جدًا، وأنها قد تسبّب الوفاة؛ إذا لم يكن هناك تشخيص مبكر وتعامل مناسب مع كل مرض، ويكون ذلك عن طريق أخصائي أمراض المناعة والأمراض الروماتيزمية.
على المريض أن يعلم أنه يعاني من مرض مزمن لا شفاء منه، وأن الغرض من العلاج هو تقليل حدة المرض عن طريق السيطرة على الأعراض. إذا كان المريض لديه أي نوع من أنواع الحساسية يجب التعامل معها مباشرة والتوقف عن الأطعمة أو الأدوية المسبّبة لها، والابتعاد عن مصادر العدوى قدر الإمكان عن طريق غسل اليدين والأنف جيدًا، والابتعاد عن التوتر وقضاء فترات طويلة في التأمل والاسترخاء وممارسة الرياضة؛ كل هذه العوامل من شأنها أن تقلل الأعراض وتمنع تفاقم المرض.