د.احمد خالد توفيق
رأيت ذلك الكليب في "يوتيوب": شارع في بلد أوروبي ما، ثم تظهر مجموعة من
المتسولين الذين يحملون أجهزة الكمان، ويبدؤون في عزف السيمفونية التاسعة
لبيتهوفن.. يلتف المارة، ويبدؤون في التصفيق مع اللحن، ثم تلهج الحناجر
بالغناء فتكتشف أنهم كلهم يحفظون مقاطع النشيد الأوبرالي الرائع المصاحب
للحن، وترى أطفالاً يرقصون مع أهلهم.. وتتعالى الملحمة والنشوة العامة.
في نفس اليوم وجدت (كليب) صغيرًا لداعش يعطي دروسًا تعليمية للأطفال في ذبح
الأسرى المقيدين، والأطفال فخورون يحاولون التجويد وإرضاء الكبار.
إلام سيصير الطفل الذي يتعلم ذبح البشر في سن التاسعة؟ وإلام سيصير الطفل
الذي يرقص على سيمفونيات بيتهوفن مع أبيه؟ سيكون عالمًا أو موسيقارًا أو
طبيبًا ناجحًا.. بالتأكيد لن يتحوّل إلى سائق ميكروباص أو إلى اللمبي الذي
يقول بوضوح: "مصاحب علي علوكة وأشرف كخه عايزاني أطلع إيه؟.. طيار؟!".
هذه هي المشكلة.. حضارة مزدهرة وراقية جدًا هناك، وحياة تحت مستوى
الإنسانية هنا.. الفارق الأبدي بين الشمال والجنوب.. دول اليسر ودول
العسر.. ومهما بلغت من تحضر فلابد أن تشعر بغصة، ودرجة ما من الحقد على
هؤلاء الذين يرقصون على نغمات بيتهوفن، بلا كوم زبالة واحد.
عندما وقعت الاعتداءات في فرنسا شعرت أنها بشكل ما تحمل نوعًا من انتقام
العالم المتخلف من الحضارة والرقي والفن الذين تمثلهم باريس, وتوقعتُ ككل
مرة أن أجد سيلاً من الشماتة في التعليقات على شبكة الإنترنت.
بعد 11 سبتمبر 2001 سادت العالم العربي حالة من الفرح والنشوة الكاملة،
وأذكر أن الناس كانوا يهنئون بعضهم في الشوارع.. لم أستطع فهم هذا.. أفرح
عندما تحدث مصيبة للجنود الأمريكيين في فيتنام أو العراق مثلاً (لم يكن
محتلاً وقتها طبعًا)، وأفرح كلما حدثت عملية استشهادية في إسرائيل، برغم أن
هناك قتلى مدنيين، لكن كان هناك مبرر معقول هو أن هذا مجتمع معسكر كله، ثم
السؤال الدائم: ماذا أتى بكم من بولندا والمجر إلى هنا؟
لكن ماذا عن مدنيين أمريكيين في طائرات مدنية، وأم تريح رأس ابنتها الطفلة
الناعسة على كتفها في ساعات النهار الأولى هذه؟. الأمريكان كأفراد يختلفون
تمامًا عن حكومتهم وعن جيشهم وبحريتهم. لم يكن هؤلاء هدفًا مقبولاً
للانتقام بأي شكل. وما فعلته أمريكا على كل حال هو أنها منحتنا ساعات من
الفرحة والتشفي ثم دمّرت بلدين كاملين، منهما عاصمة الخلافة العباسية
نفسها.
هذه المرة أيضًا – بعد أحداث فرنسا – ظهرت تعليقات الشماتة، وتذكر الجميع
فجأة أن فرنسا دولة محتلة غاصبة منذ عصر نابليون بونابرت حتى الجزائر،
والسؤال هو لماذا تذكر الجميع الانتقام اليوم فقط؟ ولماذا توجد جالية هائلة
من الجزائريين والمغاربة في فرنسا؟. الأمر إذن شهوة واضحة.. ما دمنا لا
نستطيع الارتقاء في سلم الحضارة فلنجذب هؤلاء لنا. وهاهي ذي دلائل بدء تحول
فرنسا إلى دولة بوليسية تلوح في الأفق. هنيئًا لمن فعل هذا فقد أحال حياة
مسلمي أوروبا جحيمًا. الحقيقة أن كل واحد منا يحمل (داعش) مستعدة للظهور في
داخله. ومهمة داعش المقدسة هي جعل الحياة جحيمًا وتدمير كل ما هو جميل ثم
الانتحار.
كتب مدوّن سوري أن هذه الواقعة التي اهتز لها العالم تحدث يوميًا في سوريا.
هذا صحيح، المرصد السوري لحقوق الإنسان يقدر عدد القتلى السوريين منذ 2011
حتى أغسطس 2015 بربع مليون قتيل تقريبًا !!
لا أذكر كم مرة قرأت فيها عن مصرع 200 شخص في انفجار بحسينية كذا أو سوق
كذا في العراق. نحن العرب نموت بأعداد هائلة كالدجاج. صديقة سورية عزيزة
كتبت لي تقول: "سؤالي هنا أيحق لنا التعاطف مع دولة تعاني تفجيرا إرهابيًا
ونحن كسوريين نعاني القصف والرصاص وكل ما يخطر على بال؟ وكما تعلم ففرنسا
ورئيسها يدعمان التنظيمات المسلحة باعتبارها مقاومة حرة بل وتمدهم بالأسلحة
كذلك. سيدي أرجو ألا تفهمني خطأ فأنا لست شمشون كي أسقط المعبد علي وعلى
أعدائي ولكن عند تفجير لبنان لماذا لم ينبطحوا بمشاعرهم المرهفة وتأثرهم
المريع كما فعلوا لفرنسا؟ هل نحن عانينا لدرجة أننا نسينا ألمنا والتفتنا
لآلام الآخرين؟ نعم فرنسا تألمت ولكن سوريا تفتتت!! وأظنها أحق بتعاطف
أبنائها وأكرر أنني أنا أيضا متعاطفة ولكن لا أنسى بلدي الدامي فما رأيك
سيدي؟".
تقريبًا بهذه السطور عبرت عن رأي قسط لا بأس به من الشباب. حتى صار من
المجازفة في بعض الأحيان أن تبدي تعاطفًا أو لا تهلل فرحًا؛ لأن الفرنسيين
المدنيين ماتوا وهم يتناولون العشاء أو يشاهدون مباراة.
الإجابة هي أننا العرب نمر بكوارث لا أول لها ولا آخر.. مصائب في كل يوم وكل مكان وغصة قلب دائمة.
لكن هذا لا يمنع أن أتعاطف هنا وهناك.. لماذا يجب أن أدخر عواطفي لجانب
واحد فقط؟ أن أرفض مقتل السوريين الأبرياء بنفس الحدة التي أرفض بها مقتل
الفرنسيين الأبرياء.. لا توجد انتقائية في الدم.. ليس مدنيوهم أغلى من
مدنيينا وليس مدنيونا أغلى من مدنييهم.
تذكر أننا أيضًا انتقائيون جدًا.. هل اهتممت قط بمذابح رواندا أو قضايا
ميانمار أو بحق الدلاي لاما في الرجوع للتبت؟ طبعًا لا.. لو زالت تنزانيا
من الخارطة فلن يهتم أحد. مع انفجارات فرنسا لم تتعاطف.. بل لم تصمت كذلك
وأبديت شماتة واضحة. نحن نرتكب نفس الخطايا التي نلوم العالم عليها اليوم.
بينما رأينا الأوروبيين يخرجون في مظاهرات تعاطفًا مع أي ظلم إنساني في
بقاع الأرض، وقد كانت المظاهرات تملأ أوروبا في محاولة يائسة لمنع غزو
العراق ومناسبات لا حصر لها، ورأينا الألمان يقفون في محطات القطارات
ينتظرون اللاجئين السوريين بالماء والطعام.
النقطة الأخري كما قلت، هي إن عددنا كبير ولا ثمن لنا في بلادنا..أمريكا
دمرت بلدين من أجل 3000 قتيل في أحداث سبتمبر. بينما نحن نفقد الألوف فلا
يهتم أحد ولا يحاسب أحد. وهذا معناه أننا لم نهتم بقتلانا ففقد العالم
اهتمامه بنا.
فرنسا باعتبارها من دول الشمال واليسر قادرة على إحداث صخب وأن تلقي بحجر
في المياه الراكدة فتتسع الدوائر.. لهذا نظر العالم كله إلى فرنسا، بينما
ترك بركة الدم التي اعتاد رؤيتها في بلادنا. إنها موجودة دائمًا على كل حال
فلا داعي للقلق.