دم المماليك (13).. الناصر فرج بن برقوق.. عهد الدم

نحن الآن في العام 1399م:

مات السلطان الظاهر برقوق، فحمل الأمراء ابنه الناصر فرج إلى العرش وهو ابن العاشرة، وأتموا له المراسم من أيمان مغلظة بالولاء وتكليف من الخليفة وانحناء وتقبيل للأرض بين يديه..إلخ إلخ.. ما علينا من هذا المشهد المكرر، والمكررة معه لعبة “مات السلطان الكبير.. هاتوا ابنه الصغير وسلطنوه ليصبح ألعوبة لنا، وحل وسط يمنع تصارعنا على العرش.. وإذا جاء يوم وأزاح أحدنا الآخر وركب السلطان فحلال عليه ركوبته.. أو حرام.. لا تفرق كثيرا، فالنتيجة واحدة: سلطان طفل وأمير متحكم”.

المهم.. حلفوا له على الولاء، ثم خرجوا من عنده وقد دبر بعضهم على بعض سفك الدماء.

وكما أن مشهد السلطنة والحلفان كان مكررا، فقد تكرر نفس مشهد الصراع والصدام والمخامرات والتمردات بين التحزبات والتكلات.. هذا حزب الأتابك أيتمش البجاسي -الوصي على السلطان- يتبادل الضربات -تحت الحزام وفوقه- مع حزب الدوادار يشبك الشعباني ومعه الأمراء الخاصكية (المقربون إلى السلطان). وهذا الأمير تنم الحسني -نائب دمشق- يزوم وينخر ويبدي تبرمه من أن السلطان مجرد طفل محجور عليه وأن الأمراء هم المتحكمون.. وهؤلاء الأمراء الخاصكية يوقعون بينه وبين تنم الحسني الذي يضع تحت جناحه كل أمراء الشام.. والكل في النهاية ينحنون للحضرة السلطانية ويقبلون الأعتاب الشريفة وما في القلب في القلب.. وأخيرًا يتمكن الخاصكية من أذن السلطان وقراره، فيستغلون اقترابه من سن الثانية عشر ويقنعونه أن يطلب من قضاة الشرع الشريف رفع الوصاية عنه باعتباره قد أصبح راشدا، ولأن قضاة عصره فيما يبدو كانوا على شيء مما يمكن أن نصفه تأدبًا بـ “المرونة” فقد وافقوا على رفع الوصاية عنه وتفرده بالحكم.. هنا يجد الأتابك أيتمش أن البساط قد سُحِبَ بغتة من تحت قدميه.. فيتنمر ويحشد حزبه.. وعلى سبيل مزيد من التكرار تقع المواجهة المسلحة بين أيتمش وأعوانه والأمراء الخاصكية الذين ينتصرون ويجبرون خصمهم على الهرب للشام، وسط استغلال الغاغة والحرافيش لحالة التفكك وقيامهم بمهاجمة سجون القاهرة وإطلاق المحبوسين ومهاجمة بيوت الأمراء الفارين ونهبها.. ويصل المنهزمون لتنم الحسني الذي يضمهم لجبهته ضد الخاصكية.

ولأن المسألة قد أصبحت متعلقة بهيبة السلطان الذي أصبح راشدا ولا يريد كلمة من هنا أو من هنا على سيطرته على الأمور، فقد كان من الطبيعي أن يجرد حملة جرارة يخرج على رأسها ويجتاح الشام لتأديب العصاة. وهناك كانت الدائرة على حزب الأميران تنم الحسني وأيتمش البجاسي اللذان أسرا ومعهما كبار الأمراء من حلفائهما، ولأن الهيبة السلطانية الجليلة كادت أن تهتز بفعل هؤلاء الأراذل، فقد رأت حكمة السلطان أن يثبت حزمه الرجولي  فأدار مذبحة رهيبة بحق أسراه من الأمراء، وأضاف إليهم بعض أمراء أبيه، هذا طبعا مع مصادرة أموالهم.. ثم ولّى الأمراء المنحازون له مناصب من قتلهم.. وعاد للقاهرة وهو يحس أنه قد فعل اللازم لتوطيد أركان حكمه وتأكيد قدرته على التعامل بصرامة مع من يستهين به.

هل عليّ أن أذكّر القاريء أننا نتحدث عن طفل في الثانية عشر من عمره؟ حسنا.. ها قد ذكرتك.

ولأن تصاريف القدر أحيانا ما تبعث على التأمل، فقد تعرضت السلطنة لخطرين متتاليين، الأول كان غزوا مغوليا مدمرا للشام بقيادة تيمورلنك، والآخر كان مجاعة مريعة داهمت مصر حتى اضطر بعض أهل القرى لبيع أبناءهم بثمن بخس لعدم قدرتهم على إطعامهم! طبعًا نظر الجميع نحو السلطان القوي المنتصر باعتبار أنه الرجل المتمكن القادر على التعامل مع الأزمة.. فماذا فعل؟

لا شيء.. فمثل تلك المسائل التي تحتاج إلى حلول لا تعتمد على القمع والقتل لا تدخل في نطاق المهارات التي يجيدها السلطان.. ولولا تصرف أمراء الشام بما ينبغي لإنقاذ دمشق التي أباد المغول أهلها ودمروها، وقرار تيمورلنك تبريد جبهة الشام والأناضول ليتفرغ لحروبه في الصين، لضاعت الشام للأبد.

هذا فضلا عن أنه -السلطان فرج- كان مشغولا في مسائل يراها أهم، فقد ارتأت حكمته أن يضفي مزيدا من الحماية على ملكه بأن يزوّج أخواته من الأمراء الأقوياء لضمان ولائهم.. كما عادت من جديد صراعات الأمراء، لكن بطريقة أكثر فوضوية وعبثية وجنونا من ذي قبل، فهذا اليوم يضرب ذاك، ثم في اليوم التالي يحالفه، ثم يتركه ويتحالف مع غيره ويضربانه معًا، ثم ينفض الحلف ويتحالف الخصمان ويصطدمان بمن كان حليفًا لأحدهما على الآخر.. وهكذا.. والسلطان غارق في لهوه وسكره، فهو على ما يبدو قد قرر ترك الأمراء يذبح بعضهم بعضًا، ثم في النهاية النتيجة واحدة: سيصعد أحدهم إلى القلعة ويقبل الأرض للسلطان الذي سينعم عليه بوظيفة الأتابك التي صارت منذ عهد السلطان الراحل برقوق أعلى رتبة من نيابة السلطنة ومن الوزارة.. فليتركهم إذن للهوهم الدامي وليستمتع هو بجلسات السُكر والعربدة مع رفاقه.. لكن القدر يدخر له صفعة موجعة، فصراعات أمراء الشام قد امتدت لتتصل بصراعات أمراء القاهرة فيحتشد المتمردون في دمشق ويزحفون نحو مصر وقد انتووا خلع السلطان. ويفاجأ السلطان أن المتمردون قد دخلوا حدود مصر وأنهم يتجهون جديًا للقاهرة لخلعه، فيحشد جيشه ويصطدم بهم قرب مدينة الزقازيق، فينهزم وينسحب، وتضيق الدنيا في وجهه وهو يرى السلطنة -وربما حياته نفسها- تضيع من يديه، ولكن انشقاقا في صفوف المتمردين يدفعهم للانسحاب لدمشق مرة أخرى.. ويشمخ السلطان بأنفه معلنا انتصاره ويزين إعلانه هذا ببعض الإنعامات على الموالين له وبعض الاعتقالات بحق معارضيه، بينما هو يعرف أنه في حقيقة الأمر لم ينتصر وأن سيف المشاعلي أو وتر الخنق كان قاب قوسين أو أدنى من عنقه لولا تدابير القدر، ويعرف -وهذا الأدهى- أن المتمردين قبل انسحابهم قد استولوا على الكثير من أمواله وأسلحته.

والقاريء في علم النفس ولو قليلا يعرف أن من في مثل “حالة” السلطان فرج بن برقوق لابد أنه منتقل للمستوى الأعلى وهو “البارانويا”.

وبالفعل.. تنتاب السلطان الشاب -الذي أصبح الآن في السابعة عشر من عمره- حالات من الارتياب فيمن حوله، بالذات في المماليك السلطانية الذين يفترض أنهم درعه الواقي، والسبب كان غريبا أنهم كانو من المنتمين للعرق الجركسي بينما هو يفضل الذين ينتمون للعرق الرومي (اليوناني).. رغم أنه هو نفسه جركسي الأب، ولكنه فيما يبدو كان متعلقا بأمه اليونانية “شيرين”.. واندلعت فتنة بين المماليك والأمراء الروم والجركس، احتواها السلطان كالعادة بإجراءات حادة كنفي هذا واعتقال ذاك.

ويبدو أن جنون الريبة من الجراكسة قد سيطر على الناصر فرج لدرجة غير منطقية، فيومًا ما كان مع بعض رفاقه في حديقة القصر يشربون الخمر احتفالًا بعيد النيروز، فتمكن منه السُكر فألقى نفسه في بحيرة صغيرة في حديقته، فألقى رفاقه أنفسهم وبقوا يلعبون بالماء، ثم هجم أحدهم عليه وأغرقه حتى كاد أن يقتله لولا أن أفاق زملاءه من الصدمة وأنقذوه من يديه.. وعلى حظ السلطان، فإن صاحب هذا المزاح الثقيل كان جركسي الجنس، وأن من أنقذوه كانوا أروام.. فعادت التوهمات والتشويشات تنتاب تفكيره، ولعب وزيره ورفيقه القاضي ابن غراب دوره بتحذيراته المستمرة له من الجركس، فاتخذ أغرب قرار يمكن أن يتخذه سلطان مسيطر على مقاليد الحكم، ففي أحد أيام عام 1405م استيقظ أهل القلعة على خبر اختفاء السلطان الذي قرر فجأة الهرب وترك السلطنة وكل ما يتعلق بها وذهب للاختباء في دار ابن غراب خوفا من مؤامرة مبهمة يتوهمها ومن قاتل افتراضي يتربص به!

هنا يضطر الأمراء للبحث عن من يتولى العرش، فلا يجدون سوى المنصور عبدالعزيز بن برقوق -أخو السلطان المختفي- الذي كان صبيا بعد، ربما قد تجاوز الثانية عشر بقليل.. فيضعونه على العرش ويعيدون نفس السيناريو: العهد بالسلطنة، يمين الولاء، المؤامرات الجانبية.. إلخ.. لكن هذه المرة يقوم الداهية ابن غراب بما يمكن وصفه بلغة هذه الأيام الدارجة بـ “الدخول المفاجيء”، فيُظهِر السلطان ويتحالف مع الأمير يشبك الشعباني ويخلعان السلطان الصبي الذي لم يكمل أسابيع على العرش، ثم يتولى فرج السلطنة من جديد، ويعتقل من سلطنوا أخاه -رغم أنه هو الذي اختار الانسحاب من السلطنة- بل ويعتقل أخاه عبدالعزيز وأخاه الآخر إبراهيم في سجن الإسكندرية، حيث يموتان فجاة بعد أقل من سنة وسط شبهات قوية جدا أن الناصر فرج قد دبر موتهما بالسم.

هنا يستقر له الأمر في مصر، لكن للجبهة الشامية رأي آخر، فيضطر للخروج على رأس ست حملات للسيطرة عليها.. وتعرض خلال الحملة السادسة لصفعة مهينة، فأثناء مطاردته الأميران المتمردان شيخ ونوروز بالشام، فوجيء أنهما تسللا لمصر مع أعوانهما وسيطرا على القاهرة وحاصرا قلعة الجبل حتى اضطرا للفرار لمدينة الكرك عندما أرسل السلطان قوة تنقذ عاصمته وقلعة حكمه! ثم اضطر في النهاية بعد معارك وحملات ومجازر أن ينهي الأزمة باتفاق مع المتمردين لتهدئة الأوضاع.

ولم تكد الأوضاع تهدأ حتى دخل اختلال شخصية السلطان منذ العام 1412م وهو في الرابعة والعشرين من عمره  في منحنى حاد كانت فيه نهايته.. فقد وسوس له مماليكه أن سبب كل المشكلات والفتن في السلطنة هم مماليك أبيه -وكانت علاقته بهم متوترة أصلا كما أسلفنا القول- ولأن الحاكم المستسهل لـ “الحل الأمني” عبارة عن “أُذُن” مفتوحة وعقل متحجر وقبضة غشيمة، فإن الحل عنده كان حاضرا.. السجن والسيف.. هل تعتقدون أن السلطان لديه الوقت والبال الرائق ليحقق ويفكر ويحلل؟ لماذا تضييع الوقت، بينما يمكن حل كل شيء بالحزم الذي يليق بالسلطان؟ أخذ الناصر فرج قراره إذن وبدأت موجة اعتقالات للمئات من مماليك السلطان الراحل، ثم تلتها حفلات مسائية دامية أحياها الناصر فرج بنفسه حتى إنه قد ذبح في ليلة واحدة مائة مملوك، وألقى جثثهم من فوق أسوار قلعة الجبل.. وبقي السلطان كل ليلة يزور المحابيس ويقتل بعضهم.. حتى قتل أكثر من ستمائة مملوك لمجرد الشك في احتمال تسببهم في الاضطرابات مستقبلا.

ويبدو أن القتل كحل جذري للمشكلات قد استهوى السلطان، فقد نقله من مستوى السياسة والحكم لمستوى المسائل الشخصية، فعندما بلغته بعض الشائعات أن طليقته -واسمها خوند بنت صرُق- قد أقامت علاقة عاطفية مع أحد الأشخاص خلال فترة العِدة سارع باستدعائها، فجاءته متزينة وهي تحسب أنه قد قرر ردها لعصمته، وحيته وقبّلت يده، ففوجئت به يخرج النمجاة (سلاح بين الخنجر والسيف) ويطاردها في جناح الحريم وهو يصرخ بها: “يا قحبة.. مراكيب الملوك تركبها البلاصية؟!!” وهو يضربها بالسلاح حتى مزقها، ثم فصل رأسها عن جسدها وحمله، واستدعى من يتهمه بها وأراه الرأس ثم قتله هو الآخر.. مرحى.. لابد أنه نام ليلتها وهو راضٍ عن رجولته حتى الانفجار فخرا!

بل وطالت حلوله الجذرية الحازمة المباني، فقرر هدم تحفة معمارية هي مدرسة السلطان شعبان المجاورة لقلعة الجبل خوفا من استخدام مآذنها العالية في مهاجمة مقر الحكم في حال وقوع تمرد!

ومرة أخرى تطل الفتن برأسها من جبهة الشام، فيخرج الناصر على رأس حملته السابعة وقد قرر هذه المرة عدم الرجوع إلا برؤوس الأمراء المتمردين.. ولكن كان الناصر على موعد مع خيبة ثقيلة، فسياساته الدموية وتقلباته بين الرضا والسخط والنعمة والنقمة جعلت الجميع يخشون أن تصيبهم بعض شظايا قراراته الجنونية، فانقلبت عليه مقدمة جيشه وانضمت للمتمردين عليه وعلى رأسهم الأمير شيخ… ويرفض السلطان النصيحة بالعودة والتحصن في القاهرة، ويصر على استكمال القتال، لكنه يُهزَم ويؤسَر ويُحبَس في قلعة دمشق.. ويختلف المتمردون المنتصرون في أمره.. فيغلب الرأي القائل بقتله.

وفي ليلة، يصعد لبرج قلعة دمشق أربعة رجال، يفسح لهم الحارس الطريق دون كلمة واحدة، يفتحون باب الزنزانة ليهب فرج من مرقده.. يلاحظ الأنصال اللامعة المطلة من تحت عباءات زواره.. يبقى متجمدا في مكانه وهو يقاوم رعدة انتابته بسبب لفحة هواء باردة هبت من الباب فصفعت جسده العاري إلا من سروال بالكاد يستر العورة.. يخشى أن يحسبوه يرتعد خوفا..  فلأنه مدمن للقتل فإن قراءة نية سفك الدم في نظراتهم لم تكن بالأمر الذي يصعب عليه.. دخلوا وأغلق رابعهم الباب، ولم يضيعوا مزيدا من الوقت في تبادل النظرات المترقبة مع فريستهم.. حاول السلطان المخلوع المقاومة، كان يراوغهم بشراسة في محبسه وكل منهم يحاول أن ينال من مقتله بخنجره، كان يجز بعنف على أسنانه والدائرة تضيق حوله وأسنان الأسلحة تنتزع مزعات من جلده ولحمه وترسم خطوطًا دامية على بدنه.. أخيرا أغلقت الدائرة.. اخترق خنجر ضلوعه حتى المقبض فهوى أرضا.. أخرج أحدهم وترا وخنقه به ليتأكد من موته.. لدهشتهم بقيت في جسده حركة رغم أنهم قد انهالوا بعدها بخناجرهم عليه.. أخيرا اضطروا لذبحه.

في الصباح رأى أهل دمشق جسدا نحيلا.. شابا عاريا ممزقا مُلقى على قارعة الطريق بجوار قلعة المدينة.. اقترب أحدهم بحذر فتعرّف في ملامحه على السلطان المخلوع توا.. تلفت حوله بحذر ثم آثر السلامة فتركه ورحل.. بقي الناس يمرون بالجثمان ويتشاغلون عنه كأنهم لم يروه.. تشجّع بعضهم فعبث بلحية القتيل، ثم تجاسر البعض فجرّوه برجليه على التراب حتى سئموا العبث.. أخيرا جاء رجل مجهول حمل الجثمان ورحل به إلى حيث جهزه ودفنه في هدوء دون جنازة.                                                ……….

بعد مقتل الناصر فرج بن الظاهر برقوق جلس على كرسي السلطنة 16 سلطانا منهم واحد لم يتسلطن سوى لليلة هو “خاير بك الدوادار” ليطيح به قايتباي في الصباح.. كل هؤلاء ماتوا على فراشهم، سواء كان الفراش في القصر وهم في الحكم أو في المنفى أو المحبس أو الدار وهم معزولون. حكم قايتباي مصر لنحو ثلاثين عاما، كانت بمثابة الصحوة الأخيرة لدولة المماليك، وأخيرا مات سنة 1496م، أي أن خيط دم سلاطين المماليك قد انقطع -مؤقتا- في الأعوام بين مقتل الناصر فرج سنة 1412م وما بعد الوفاة الهادئة لقايتباي، لتعود دائرة دم السلاطين سيرتها الأولى فيما بعد ذلك وحتى نهاية الدولة ذاتها.

(يتبع)

محتويات الموضوع