سؤال: "ما علاقة الطب والأدب؟". سؤال مكرر عتيد، وقد كتبت عنه مرارًا. المرء يصادف العديد من المواقف غير المعتادة في حياته كطبيب، ويرى أصحاب النفوذ يموتون من دون نفوذهم، والأثرياء يتوسلون من أجل الحياة يومًا آخر، والفقراء الذين يبدو لهم الموت حلاً معقولاً للخلاص.. يرى وجه الفتاة غير المتزوجة التي يخبرونها أنها حامل، ووجه الزوج الذي يخبرونه أن أيام زوجته معدودة، ويرى أمين الشرطة السابق الذي يعلق الكاسكيت على الفراش ليؤكد سلطته ويحكم العنبر. يرى وجه الشاب المفعم بالحياة الذي وجدوا بفحص إشعاعي عابر ورمًا سرطانيًا في كبده. يرى الطبيب كل شيء ... وهكذا يولد السؤال الأهم: كيف لا يصير من رأى هذا كله أديبًا؟
المريض الذي جاء من قرية نائية، والذي يصل به الإسعاف فجرًا وهو موشك على الاحتضار فيضعونه في العنبر ويمضي هو والأطباء والممرضات ليلة سوداء. في السادسة صباحًا تراه خارجًا من المستشفى على قدميه وهو يحمل (شفشق) من البلاستيك .. يتساءل رجل الأمن الناعس في ذهول عن وجهته، فيؤكد أنه ذاهب لشراء فول من الحزب الوطني!!.. وبالفعل يعود بعد ربع ساعة بالشفشق مليئًا بالفول الساخن !.. هل أفاق من الاحتضار في موعد الفول كأي مصري أصيل يصغي لنداء أوزيريس؟ ومن قال له إن هناك من يبيع الفول عند الحزب الوطني؟ بل من أخبره بمكان الحزب الوطني أصلاً وهو آت من قرية نائية؟ أقسم بالله أن هذا حدث فعلا وليس من تأليفي .. كيف لا يصير من رأى هذا كله أديبًا؟
عم حمزة الطيب المسن مصاب باعتلال المخ الكبدي، أي أنه غير مسئول عن أفعاله. ينام عم حمزة في عنبر الرجال بالطابق السفلي، ثم ينهض في منتصف الليل ليفرغ مثانته. ينسى مكان العنبر الذي كان فيه ويصعد في الدرج ليدخل عنبر الحريم النائمات. المريضات المسنات المصابات بالفشل الكبدي والاستسقاء، والقبيحات كالأبالسة، يتذكرن فجأة أنهن إناث جرح حياؤهن فيرقعن بالصوت الحياني:
ـ"راجل يا خرابي ي ي ي ي ي !"
ثم ينهلن على الرجل المسن المريض بالشباشب وهن يصرخن كأن القادم أسد، فلا ينقذه من براثنهن إلا العامل السهران .. في الصباح يفيق عم حمزة من الغيبوبة الكبدية تمامًا.. لقد شفي .. ويعلن من بين دموعه أنه لن يبقى في المستشفى لحظة واحدة بعد هذه الفضيحة..
ولكن قل لي بربك كيف كيف لا يصير من رأى هذا كله أديبًا؟
الواقع أن المقارنة غير عادلة بين الطبيب الأديب وسواه من الأدباء، ولا يوجد تكافؤ فرص من أي نوع بين رجل يعيش وسط بحر أفكار، ورجل قد يجد الفكرة بصعوبة بالغة. نفس العبارة تقريبًا قالها لي د. علاء الأسواني عن الأديب الذي يعيش في مصر مقارنة بصنوه الغربي .. حكى لي عن رجل دهمته سيارة في المطرية لأنه كان يعبر الشارع وهو يتكلم في المحمول شارد الذهن . يكتشف رجال الشرطة أن الهاتف الملقى جوار الجثة لعبة أطفال، والرجل كان يتكلم بها على سبيل الادعاء والغرور (كان هذا في زمن المحمول باهظ الثمن). قال د. علاء إن حادثًا كهذا لا يحدث إلا في مصر ويلهم الأدباء بلا حدود..
على أن حكايات الدم تظل هي الأكثر غرابة في ذكرياتي الطبية.
أولاً يؤمن معظم الفلاحين البسطاء أن كمية الدم في جسم الإنسان لا تتجاوز ثلاثة سنتيمترات، ولهذا فهم يعتبرون سحب سبعة سنتيمترات من المرء لإجراء الفحوص المختبرية عملية قتل كاملة.
هنا يصير التبرع بالدم عملاً شبه مستحيل .. تطلب دمًا للمريض. ولما كانت هناك أزمة دائمة في الدماء، فأنت تطلب متبرعًا بين أقارب المريض، فيقولون لك مندهشين من حماقتك:
ـ"يعني نموت واحد عشان التاني يصحى؟"
يعرف معظم الأطباء أنه عندما يكون المريض محاطًا بقبيلة من أقاربه، فإن مهمتهم جعل حياة الطبيب والممرضة جحيمًا. على الأرجح سيجامل كل واحد منهم المريض بأن يلوم الأطباء أو يتشاجر أو يسأل عن كل شيء. يعرف الطبيب أن الطريقة المثلى للخلاص من هؤلاء هي أن يطلب دمًا:
ـ"نحتاج لدم فصيلة B .. اختاروا مجموعة منكم يذهبون لبنك الدم مع الممرضة لنختبر فصائل دمهم.."
يتبادلون النظرات .. بعد لحظات تكتشف أن المريض صار وحده تقريبًا. اختفى الجميع فلم يبق معه إلا من يضحون بحياتهم من أجله فعلاً، ولقد تأثرت كثيرًا بمشهد شاب يقيء دمًا بينما فر الثلاثون رجلاً الذين جاءوا به بمجرد طلب دم .. لكن أمه المسنة المتهالكة راحت تشمر ذراعها الهزيلة وتتوسل لي:
ـ"خذوا مني ما تريدون يا بيه .. أفرغوا عروقي كلها"
رحت أقنعها بأن فصيلة دمها لا تصلح، وأننا لن نأخذ منها دمًا لمجرد أن نرضيها ..
أحيانا لا يتمكن كل أقارب المريض من الفرار.. هناك من يتأخر أو يمنعه الحرج من الهرب، وهكذا يجد ذلك التعس نفسه في بنك الدم.
ذهبت ذات مرة لبنك الدم لإجراء توافق الفصيلة مع شاب مفتول العضلات من أقارب المريض، وكانت أسود لحظة في حياته عندما اكتشف أن له نفس فصيلة المريض. هكذا جلس ينتظر أن يحضروا كيس التبرع، بنفس النظرة التي ينظر بها المحكوم عليه بالإعدام عبر نافذة الزنزانة إلى عشماوي وهو يختبر (الطبلية) ومتانة الحبل .
هنا يكون أحد أقاربه قد خرج بسرعة إلى كشك حمدان المجاور للمستشفى .. كشك حمدان له مهمة واحدة أساسية في الحياة؛ هي بيع علب العصير وعلب سجائر الكليوباترا البيضاء لأقارب المرضى. لسبب ما يعتقد الناس أن العصير المحفوظ في زجاجات أو أكياس لا يصلح .. لابد للمستشفى من عصير في علبة من الورق المقوى وشفاطة ...هناك كذلك أهمية خاصة لعصير الجوافة بينما عصير البرتقال رقيع لا يصلح..
يعود الرجل وعلى وجهه علامات الخطورة حاملاً كيسًا فيه عدة علب من العصير .. فيصيح الفتى:
ـ"انتظروا حتى أبدأ الشرب!"
يقدم له قريبه علبة ويثقبها ويضع الشفاط فيها، ثم يخرج ليقف في الممر ويشعل سيجارة كليوباترا شاعرًا بالرجولة والمسئولية. يبدأ الفتى امتصاص العصير في نهم كأنه يستعد لصدمة النزف القادمة ..
يمكنك سماع صرخته الوحشية عندما تغيب الإبرة في عروقه. ثم ينظر للكيس الذي يمتلئ بالسائل الأحمر وتتسع عيناه ويزيد من سرعة شرب العصير ليعوض كل هذا الدم.
الأمر يطول .. هذا لا يصدق ...
يصرخ في الممرضة التي تجري التبرع:
ـ"كفايه يا أبله !.. أنا خايف اعيا وما يبجاش فيا حيل اشتغل طول عمري!"
ويواصل الشرب في سرعة أكثر..
على الأرجح يفقد الوعي عندما يصل الكيس للنصف .. ليس بسبب النزف ولكن بسبب الصدمة العصبية.. ثم يصحو ويرمق الكيس الدافئ الساخن المليء بالدم في حسرة. على الأرجح سيخرج حالاً ليبحث عن عربة تبيع شطائر الكبدة الساخنة .. لأن الكبدة تتحول لدم بسرعة كما تعلم ..
فصيلة دمي O موجب ، وكنت أتبرع بدمي بانتظام عندما كنت طبيبًا مقيمًا، وكان هذا ينهي مشاكل كثيرة بدلاً من لوحات فن الباروك هذه. ثم صاروا يفحصون الدم بحثًا عن التهاب الكبد، وهو مرض لم يكن له علاج وقتها. ولقد رأيت أشخاصًا كثيرين مفعمين بالحيوية اكتشفوا بالصدفة أنهم مصابون بالتهاب الكبد بي أو سي، من ثم صار كل ما يفعلونه هو الجلوس بانتظار الموت. ما جدوى أن تعرف أنك مصاب بمرض لا علاج له؟. عرفت أنني سأصير من هؤلاء لو اكتشفت أنني مريض بالبي أو السي وكففت عن التبرع منذ ذلك الوقت.
الدم !... كلمني أنا عن حكايات الدم .. لكن قل لي بربك كيف كيف لا يصير من رأى هذا كله أديبًا؟
المريض الذي جاء من قرية نائية، والذي يصل به الإسعاف فجرًا وهو موشك على الاحتضار فيضعونه في العنبر ويمضي هو والأطباء والممرضات ليلة سوداء. في السادسة صباحًا تراه خارجًا من المستشفى على قدميه وهو يحمل (شفشق) من البلاستيك .. يتساءل رجل الأمن الناعس في ذهول عن وجهته، فيؤكد أنه ذاهب لشراء فول من الحزب الوطني!!.. وبالفعل يعود بعد ربع ساعة بالشفشق مليئًا بالفول الساخن !.. هل أفاق من الاحتضار في موعد الفول كأي مصري أصيل يصغي لنداء أوزيريس؟ ومن قال له إن هناك من يبيع الفول عند الحزب الوطني؟ بل من أخبره بمكان الحزب الوطني أصلاً وهو آت من قرية نائية؟ أقسم بالله أن هذا حدث فعلا وليس من تأليفي .. كيف لا يصير من رأى هذا كله أديبًا؟
عم حمزة الطيب المسن مصاب باعتلال المخ الكبدي، أي أنه غير مسئول عن أفعاله. ينام عم حمزة في عنبر الرجال بالطابق السفلي، ثم ينهض في منتصف الليل ليفرغ مثانته. ينسى مكان العنبر الذي كان فيه ويصعد في الدرج ليدخل عنبر الحريم النائمات. المريضات المسنات المصابات بالفشل الكبدي والاستسقاء، والقبيحات كالأبالسة، يتذكرن فجأة أنهن إناث جرح حياؤهن فيرقعن بالصوت الحياني:
ـ"راجل يا خرابي ي ي ي ي ي !"
ثم ينهلن على الرجل المسن المريض بالشباشب وهن يصرخن كأن القادم أسد، فلا ينقذه من براثنهن إلا العامل السهران .. في الصباح يفيق عم حمزة من الغيبوبة الكبدية تمامًا.. لقد شفي .. ويعلن من بين دموعه أنه لن يبقى في المستشفى لحظة واحدة بعد هذه الفضيحة..
ولكن قل لي بربك كيف كيف لا يصير من رأى هذا كله أديبًا؟
الواقع أن المقارنة غير عادلة بين الطبيب الأديب وسواه من الأدباء، ولا يوجد تكافؤ فرص من أي نوع بين رجل يعيش وسط بحر أفكار، ورجل قد يجد الفكرة بصعوبة بالغة. نفس العبارة تقريبًا قالها لي د. علاء الأسواني عن الأديب الذي يعيش في مصر مقارنة بصنوه الغربي .. حكى لي عن رجل دهمته سيارة في المطرية لأنه كان يعبر الشارع وهو يتكلم في المحمول شارد الذهن . يكتشف رجال الشرطة أن الهاتف الملقى جوار الجثة لعبة أطفال، والرجل كان يتكلم بها على سبيل الادعاء والغرور (كان هذا في زمن المحمول باهظ الثمن). قال د. علاء إن حادثًا كهذا لا يحدث إلا في مصر ويلهم الأدباء بلا حدود..
على أن حكايات الدم تظل هي الأكثر غرابة في ذكرياتي الطبية.
أولاً يؤمن معظم الفلاحين البسطاء أن كمية الدم في جسم الإنسان لا تتجاوز ثلاثة سنتيمترات، ولهذا فهم يعتبرون سحب سبعة سنتيمترات من المرء لإجراء الفحوص المختبرية عملية قتل كاملة.
هنا يصير التبرع بالدم عملاً شبه مستحيل .. تطلب دمًا للمريض. ولما كانت هناك أزمة دائمة في الدماء، فأنت تطلب متبرعًا بين أقارب المريض، فيقولون لك مندهشين من حماقتك:
ـ"يعني نموت واحد عشان التاني يصحى؟"
يعرف معظم الأطباء أنه عندما يكون المريض محاطًا بقبيلة من أقاربه، فإن مهمتهم جعل حياة الطبيب والممرضة جحيمًا. على الأرجح سيجامل كل واحد منهم المريض بأن يلوم الأطباء أو يتشاجر أو يسأل عن كل شيء. يعرف الطبيب أن الطريقة المثلى للخلاص من هؤلاء هي أن يطلب دمًا:
ـ"نحتاج لدم فصيلة B .. اختاروا مجموعة منكم يذهبون لبنك الدم مع الممرضة لنختبر فصائل دمهم.."
يتبادلون النظرات .. بعد لحظات تكتشف أن المريض صار وحده تقريبًا. اختفى الجميع فلم يبق معه إلا من يضحون بحياتهم من أجله فعلاً، ولقد تأثرت كثيرًا بمشهد شاب يقيء دمًا بينما فر الثلاثون رجلاً الذين جاءوا به بمجرد طلب دم .. لكن أمه المسنة المتهالكة راحت تشمر ذراعها الهزيلة وتتوسل لي:
ـ"خذوا مني ما تريدون يا بيه .. أفرغوا عروقي كلها"
رحت أقنعها بأن فصيلة دمها لا تصلح، وأننا لن نأخذ منها دمًا لمجرد أن نرضيها ..
أحيانا لا يتمكن كل أقارب المريض من الفرار.. هناك من يتأخر أو يمنعه الحرج من الهرب، وهكذا يجد ذلك التعس نفسه في بنك الدم.
ذهبت ذات مرة لبنك الدم لإجراء توافق الفصيلة مع شاب مفتول العضلات من أقارب المريض، وكانت أسود لحظة في حياته عندما اكتشف أن له نفس فصيلة المريض. هكذا جلس ينتظر أن يحضروا كيس التبرع، بنفس النظرة التي ينظر بها المحكوم عليه بالإعدام عبر نافذة الزنزانة إلى عشماوي وهو يختبر (الطبلية) ومتانة الحبل .
هنا يكون أحد أقاربه قد خرج بسرعة إلى كشك حمدان المجاور للمستشفى .. كشك حمدان له مهمة واحدة أساسية في الحياة؛ هي بيع علب العصير وعلب سجائر الكليوباترا البيضاء لأقارب المرضى. لسبب ما يعتقد الناس أن العصير المحفوظ في زجاجات أو أكياس لا يصلح .. لابد للمستشفى من عصير في علبة من الورق المقوى وشفاطة ...هناك كذلك أهمية خاصة لعصير الجوافة بينما عصير البرتقال رقيع لا يصلح..
يعود الرجل وعلى وجهه علامات الخطورة حاملاً كيسًا فيه عدة علب من العصير .. فيصيح الفتى:
ـ"انتظروا حتى أبدأ الشرب!"
يقدم له قريبه علبة ويثقبها ويضع الشفاط فيها، ثم يخرج ليقف في الممر ويشعل سيجارة كليوباترا شاعرًا بالرجولة والمسئولية. يبدأ الفتى امتصاص العصير في نهم كأنه يستعد لصدمة النزف القادمة ..
يمكنك سماع صرخته الوحشية عندما تغيب الإبرة في عروقه. ثم ينظر للكيس الذي يمتلئ بالسائل الأحمر وتتسع عيناه ويزيد من سرعة شرب العصير ليعوض كل هذا الدم.
الأمر يطول .. هذا لا يصدق ...
يصرخ في الممرضة التي تجري التبرع:
ـ"كفايه يا أبله !.. أنا خايف اعيا وما يبجاش فيا حيل اشتغل طول عمري!"
ويواصل الشرب في سرعة أكثر..
على الأرجح يفقد الوعي عندما يصل الكيس للنصف .. ليس بسبب النزف ولكن بسبب الصدمة العصبية.. ثم يصحو ويرمق الكيس الدافئ الساخن المليء بالدم في حسرة. على الأرجح سيخرج حالاً ليبحث عن عربة تبيع شطائر الكبدة الساخنة .. لأن الكبدة تتحول لدم بسرعة كما تعلم ..
فصيلة دمي O موجب ، وكنت أتبرع بدمي بانتظام عندما كنت طبيبًا مقيمًا، وكان هذا ينهي مشاكل كثيرة بدلاً من لوحات فن الباروك هذه. ثم صاروا يفحصون الدم بحثًا عن التهاب الكبد، وهو مرض لم يكن له علاج وقتها. ولقد رأيت أشخاصًا كثيرين مفعمين بالحيوية اكتشفوا بالصدفة أنهم مصابون بالتهاب الكبد بي أو سي، من ثم صار كل ما يفعلونه هو الجلوس بانتظار الموت. ما جدوى أن تعرف أنك مصاب بمرض لا علاج له؟. عرفت أنني سأصير من هؤلاء لو اكتشفت أنني مريض بالبي أو السي وكففت عن التبرع منذ ذلك الوقت.
الدم !... كلمني أنا عن حكايات الدم .. لكن قل لي بربك كيف كيف لا يصير من رأى هذا كله أديبًا؟