بنى حياته كلها على الوهم والكذب فأنتهى إلى الدمار والخراب ..هل حدث أن فشلت في اختبار مدرسي لكنك عدت إلى المنزل وأخبرت اهلك كذبا بأنك نجحت , أنا حدث معي ذلك مرات , في الصغر كنت أخشى العقوبة فأكذب , وحين كبرت أصبحت أشفق على أمي من أن تحزن لفشلي فكنت أكذب . وأعترف بأني خلال حياتي كذبت كثيرا , عن قصد وتعمد , كذبت على أهلي .. على أصدقائي .. على رب عملي .. وحتى على نفسي .. لست خجلا من ذلك , ولست مضطرا لأن أبرر نفسي , بالنهاية أنا إنسان , وجميع البشر يكذبون , لكن الجيد في الأمر هو أن معظم كذباتنا بيضاء , غير مؤذية , ولا تسبب ألما وجرحا كبيرا للآخرين , فقد تكذب على صديق ما وتخبره بأنك مريض , ببساطة لأنك لست في مزاج الخروج والتنزه , أو تكذب على رئيسك في العمل فتخبره بأن عمتك أو خالتك قد ماتت لتبرر غيابك أو تأخرك , أو تكذب على جدك العجوز فتخبره بأن مرضه بسيط وسيشفى مع أنه يعاني السرطان وسيموت قريبا .. لا بأس في أن نكذب من حين لآخر , برأيي الكذب حالة صحية حين يكون لمقاصد خيرة , لكن السيئ هو أن نعتاد الكذب وندمنه في كل شيء فينتهي إلى الخديعة والاحتيال وتتحول كذباتنا البيضاء البريئة بالتدريج إلى كذبات سوداء كالحة وقبيحة تلتف حول أعناقنا كحبل المشنقة وتحيل حياتنا إلى جحيم .. هذا هو بالضبط ما حدث لبطل قصتنا .. ظل يكذب .. ويكذب .. ويكذب .. حتى تحولت حياته نفسها إلى أكذوبة كبرى .
هل للحقيقة وجود ؟
في مقاطعة لونسلو سونييه , إلى الشرق من فرنسا , قرب قمم الألب المكللة بالثلوج , ولد جان كلود روماند عام 1954 لأب يعمل حارس غابة وأم ربة منزل , كانت طفولته سعيدة حسبما يصفها هو قائلا : " لقد نلت أكثر حب يمكن لوالدين أن يمنحاه لطفلهما " . كان الهدوء هو الطابع الغالب على طفولة جان كلود , لكنه تميز على أقرانه بأمرين , أولهما المثابرة والتفوق في الدراسة , وثانيهما التفوق في الكذب ! .. إذ كان كذوبا منذ نعومة أظافره , وقد برر هو ميله للكذب في سن مبكرة بالحفاظ على أعصاب أمه لأنها كانت من النوع الميال للقلق والجزع .
في عام 1971 تخرج جان كلود من الثانوية بتفوق , والمفارقة أنه نال درجة عالية في مادة الفلسفة عن بحث كتبه بعنوان : " هل للحقيقة من وجود ؟ " . وهو عنوان ينطبق تماما على قصة حياته ورحلته الطويلة مع الزيف والكذب .
بعد الثانوية دخل جان كلود كلية الطب , لكنه لم يدرس سوى صفا واحدا , إذ فشل في اجتياز الامتحان النهائي للصف الثاني , بسبب خطأ حدث سهوا في ورقة امتحانه مما أدى لرسوبه بفارق ضئيل , طبعا كان بإمكانه أن يعيد الامتحان وينجح , لكنه لم يفعل ذلك أبدا , ولم يخبر أحدا برسوبه , بل كذب على الجميع , أهله وأصدقاءه وزملاءه , وزعم بأنه نجح في الامتحان بتفوق , والعجيب أن أحدا لم يكتشف كذبه , ولم يلاحظ أيا من زملاءه غياب أسمه عن كشف الناجحين . ولم تنتهي تلك الأكذوبة هنا , بل استمرت لأعوام طويلة , ففي كل عام , وبطرز عجيب وغير مفهوم , كان جان كلود يلتحق بالكلية مع طلبة الصف الثاني , يدرس ويجتهد ويثابر على حضور المحاضرات مثل بقية الطلبة , لكنه لا يدخل إلى الامتحانات النهائية , ولا يظهر من جديد حتى تنتهي , فتراه أول الحاضرين عند ظهور النتائج , وتراه يبالغ في أظهار القلق على نتيجته أمام زملاءه رغم أنه لم يمتحن أصلا , والعجيب أنه كان يدعي النجاح في كل عام وينجو بكذبته ... أستمر هذا المسلسل الغريب لمدة 12 عام ولم ينهيه سوى ارتياب أحد الأساتذة بجان كلود مما أدى لطرده من كلية الطب نهائيا , لكن أحدا من أهله ومعارفه لم يشك في أن جان كلود حاز فعلا على شهادة الدكتوراه , الكل ظنوا بأنه تخرج كطبيب وقد أجاد هو تقمص الدور .
خلال سنوات الدراسة الوهمية أحب جان كلود فتاة تدرس الصيدلة أسمها فلورانس كورلت , كانت علاقتهما متقلبة شابتها بعض القطائع والخلافات , لكن في النهاية نجح جان كلود في استدرار عطف حبيبته لكي تتزوجه , عن طريق كذبة طبعا , حيث زعم بأنه مصاب بمرض خطير فأشفقت عليه , وهكذا تزوج الاثنان عام 1980 , وكان جان كلود حينها مازال يزعم بأنه يدرس الطب أما فلورنس فكانت قد تخرجت وعملت في صيدلية محلية .
منظمة الصحة العالمية
في عام 1983 تم طرد جان كلود من كلية الطب كما أسلفنا , لكنه لم يخبر أحدا بذلك وزعم بأنه أنهى دراسته العليا بامتياز . وطبعا مع انتهاء دراسته , ومع وجود زوجة , كان على جان كلود أن يجد لنفسه عملا . لكن أي عمل ذاك الذي كان سيجده وهو لم ينهي كليته ولا يمتلك شهادة وليست لديه الجرأة للاعتراف أمام زوجته وأهله بأنه كذب عليهم لسنوات طويلة .
الحل الوحيد أمام جان كلود كان أن يستعمل عبقريته في الكذب مجددا . وهكذا أخترع لنفسه عملا وهميا , حيث أقنع الجميع بأنه يعمل كعالم وباحث مرموق في المقر الرئيسي لمنظمة الصحة العالمية في جنيف .
جنيف السويسرية لم تكن تبعد سوى اقل من خمسة كيلومترات عن البلدة الفرنسية التي يسكن فيها جان كلود وزوجته , وهي بلدة بريفيسسان- مون المحاذية للحدود , ولم يكن العبور اليومي بين فرنسا وسويسرا يشكل عقبة أمام جان كلود , فمواطني البلدين يمكنهما العبور بدون فيزا , وهكذا كان جان كلود يستيقظ كل صباح ليتناول فطوره ثم يودع زوجته ويقود سيارته ليذهب إلى مقر عمله على الطرف الآخر من الحدود.
انطلت الكذبة على الجميع لعشرة أعوام .. لكن كيف ؟!! .. ألم تفكر زوجته يوما في أن تتصل به في مقر عمله لأمر طارئ ؟ .. ألم يسأله أهله ومعارفه عن طبيعة عمله ؟ .. ألم يفكر أحد من أصدقاءه بزيارته في مقر عمله ؟ .. كيف تمكن من أن يخفي الحقيقة لعشرة أعوام ؟ ..
في الواقع جان كلود كان قد وضع جميع هذه الأمور بالحسبان وخطط جيدا لتفاديها , أقنع زوجته بعدم جدوى الاتصال به في مقر عمله لأنه وظيفته حساسة وتتخللها الكثير من الاجتماعات والتنقلات . ونفس هذه الحجة كررها لأصدقائه لكي لا يفكر احدهم بزيارته , أما الأسئلة حول طبيعة عمله فكان بارعا في الإجابة عنها لأنه حرص على اقتناء وقراءة جميع نشريات منظمة الصحة العالمية وكانت لديه معلومات وافية حول طبيعة علمها ونشاطها .
طيب إذا كانت وظيفة جان كلود وهمية , وهو لا يعمل فعلا لصالح منظمة الصحة العالمية ... فأين أذن كان يذهب كل صباح ؟!! ..
في الواقع الإجابة على هذا السؤال هي إحدى عجائب قصة جان كلود , فلعشرة أعوام كان الرجل يخرج بسيارته ليدور في الطرقات لساعات طويلة بلا هدى , يحتسى القهوة ببطء في مقهى أو يجلس مطولا في حديقة عامة أو متنزه , يأخذ غفوة في المقعد الخلفي لسيارته , يقرأ جريدة , يطالع كتاب أو نشرية . وأحيانا كان يعبر الحدود فعلا ليقضي بضعة ساعات جالسا في صالة انتظار مطار سويسري محاذي للحدود . كان يحاول قتل الوقت بطرق شتى حتى تحين الساعة الرابعة عصرا , أي موعد عودته إلى المنزل من عمله المزعوم .
ولكي يسبغ المزيد من الواقعية على كذبته كان يخبر زوجته أحيانا بأن لديه رحلة عمل , فكان يغيب لعدة أيام يقضيها غالبا في أحد الفنادق الرخيصة في جنيف , وعند عودته لا ينسى أن يشتري بعض الهدايا من السوق لزوجته ووالديه وأن يأخذ بعض نشريات السفر المجانية من صالة المطار المحاذي للحدود ليقنع الجميع بأنه كان مسافرا فعلا .
أحيانا كان جان كلود يذهب فعلا إلى مقر منظمة الصحة العالمية في جنيف , لكنه كان يدخل كزائر , ولم يتعدى أبدا حدود الطابق الأرضي المتاح لدخول العامة والزوار , وكان لا يفوت أي فرصة في الحصول على كل ما يجود به المقر من كتيبات ونشريات مجانية أو أي شيء آخر يحمل علامة منظمة الصحة العالمية لكي يعود به إلى منزله ويستعمله في إضفاء المزيد من الواقعية على كذبته .
ومن باب الشيء بالشيء يذكر , أقول بأني شخصيا جربت لفترة قصيرة هذه الحياة المتشردة التي عاشها جان كلود , وقد تكون أنت أيضا عزيزي القارئ جربتها في مرحلة ما من حياتك لسبب أو ظرف ما ؛ حيث اضطرتني الظروف قبل سنوات لأن أقيم لفترة قصيرة في شقة أحد الأقارب في مدينة لا أعرف فيها أحدا , الشقة كانت صغيرة , وقريبي ذاك كانت لديه زوجة وبنات شابات , ولكي لا أضايقهم في معيشتهم وحريتهم داخل منزلهم كنت أكذب فأقول بأن لدي أصدقاء في تلك المدينة أود زيارتهم , وهكذا كنت اخرج منذ الصباح الباكر ولا أعود إلا في ساعة متأخرة من الليل , كنت أذرع الشوارع لساعات طويلة حتى تؤلمني قدماي فأجلس على كرسي حديقة عامة أو مقهى أو أتمدد قليلا على سجادة مسجد .. ازور سوقا أو متحفا أو أي شيء يسمح بدخول الناس مجانا .. كم كانت مملة وثقيلة تلك الساعات , خصوصا وأن الجو كان باردا .. الآن أستذكر تلك المحنة التي لم تستمر سوى لأسبوعين أو ثلاث وأتخيل مع نفسي ما عاناه وتجرعه جان كلود لمدة عشرة سنوات من التشرد والسير بلا هدف في الطرقات ... مع اختلاف السبب والغاية طبعا .
ولعل هذا الوقت الطويل جدا من الفراغ الذي أمتلكه جان كلود هو الذي دفعه في مرحلة ما إلى تصيد النساء , فالرجل كان يجلس على ناصية الطريق من الصباح حتى المساء بلا أي عمل سوى أن يبصبص للغادين والرائحين , لا عجب أن يتخذ لنفسه عشيقة , أسمها شانتل ديلاندي , وهي طبيبة أسنان مطلقة , وكان وجودها متنفسا لبعض أيامه الطويلة السائمة .
السماء لا تمطر ذهبا
قد لا يختلف اثنان في براعة جان كلود بالكذب , لقد أخترع لنفسه وظيفة مرموقة وهمية وأقنع الجميع بوجودها , لكن المشكلة هي أن الوظيفة الوهمية لا تدر مالا , فمن أين كان سينفق على عائلته ؟ .. خصوصا بعد أن أصبح أبا لطفلين جميلين .. والغريب أنه كان ينفق بإسراف وهو العاطل عن العمل .. أفضل طعام , أغلى ملابس , أجمل منزل , أفخر أثاث , أحدث سيارة .. فمن أين كان يأتي بالمال ؟.
أظن هذا السؤال , أي من أين سيأتي بالمال , كان أول ما خطر في بال جان كلود حين أخترع وظيفته الوهمية , فالرجل كان كاذبا ولكنه لم يكن أحمق , أدرك مبكرا حاجته الماسة للمال لديمومة أكاذيبه , فتفتق عقله عن حل قائم على الأكاذيب والزيف أيضا .
زعم بأنه وعن طريق عمله في منظمة الصحة العالمية أتيحت له فرصة ذهبية لكي يودع أمواله في حساب مصرفي استثماري ذو نسبة فائدة عالية جدا , 18 % على أصل الوديعة بعد الضرائب . كانت كذبة مغرية جعلت والديه العجوزين يتوسلانه في أن يضع مبلغا من المال باسمهما في ذلك الحساب , وهكذا حصل على جميع مدخراتهما , إضافة إلى مدخرات عمه كلود , وكذلك والدي زوجته المتقاعدان اللذان لم يكتفيا فقط بإعطاء كل مدخراتهما لصهرهما العتيد وتبلغ قيمتها 400 ألف فرنك , بل باعا منزلهما أيضا وأعطياه المبلغ كاملا , مليون فرنك . وكذلك أخذ جان كلود مبلغ 900 ألف فرنك من عشيقته .
بالمجموع حصل جان كلود على مبلغ يزيد في قيمته عن 2.5 مليون دولار . إضافة إلى ذلك لم يكن جان كلود يتورع عن بيع أكاذيبه وتحويلها إلى نقود متى ما أتيحت له الفرصة لفعل ذلك , فعندما أصيب عم زوجته بالسرطان أقنعه جان كلود بوجود دواء سري جديد متاح لمراكز البحوث في منظمة الصحة العالمية فقط وله قدرة عجيبة على شفاء جميع أنواع الأورام الخبيثة , وسعر الحقنة الواحدة من هذا الدواء السحري تبلغ 15000 فرنك سويسري , وقد أشترى العم المريض عدة حقن أملا بالشفاء وهو لا يعلم بأن ما حقنه به جان كلود لم يكن سوى أبرا مسكنة لا يتجاوز سعرها في الصيدليات الخمس فرنكات .
حبل الكذب قصير !
يقال أن حبل الكذب قصير , مع أني أراه طويلا جدا بالنسبة لبطل قصتنا , ذلك أنه أستمر لاثنان وعشرون عاما , لكن مهما طال الحبل فله نهاية حتما , وتلك النهاية كانت على شكل حلقة ألتفت حول عنق جان كلود وبدأت تخنقه أكثر فأكثر بمرور الأيام .
إسرافه الزائد عن الحد , وكذلك الفوائد التي كان يجب أن يدفعها عن الودائع في حسابه الوهمي , كل ذلك أدى إلى تبخر الأموال التي جمعها على طول السنوات من أقاربه , وبدأت المشاكل تواجهه .
أول تلك المشاكل كانت مع والد زوجته الذي طالب بسحب جزء من رصيده الاستثماري لدى جان كلود , حدث ذلك عام 1988 , لكن جان كلود أستطاع تجاوز تلك المشكلة , فبعد أسبوعين فقط على ذلك الطلب سقط والد زوجته عن السلم ومات , ولم يكن معه في المنزل ساعة سقوطه وموته سوى صهره جان كلود , وبالطبع لم تجري الشرطة أية تحقيقات أضافية أو ترتاب في الأمر وسجلت الحادثة على أنها قضاء وقدر .
أستطاع جان كلود تأجيل الفضيحة لفترة , لكن ليس إلى الأبد , فحلقة الأكاذيب الملتفة حول عنقه بدأت تضغط على أنفاسه , كان موقنا بأن النهاية قريبة , وقد لاحت تباشيرها مطلع عام 1993 عندما اتصلت به عشيقته وطلبت منه سحب المبلغ الذي استثمرته عنده كاملا . أي التسعمائة ألف فرنك . لكن من أين كان سيأتي لها بالمال , فحسابه الحقيقي في المصرف لم يعد يحوي سوى على بضعة آلاف من الفرنكات بعد أن أسرف في أنفاق المال خلال السنوات المنصرمة .
وفي نفس الوقت بدأ يواجه مشاكل مع زوجته , كانت فلورنس ترتاب في مسألة عمله منذ فترة طويلة , أحيانا كانت تمزح أمام صديقاتها وتقول بأنها يوما ما قد تكتشف بأن زوجها يعمل جاسوسا . كانت شكوكها منطقية , فهي لم تستطع الاتصال بزوجها في محل عمله ولا مرة واحدة على مدى عشرة سنوات ! .. وهو لم يأخذها يوما إلى مناسبة أو حفلة تتعلق بعمله , ولم تتعرف أبدا على أي من زملاءه مع أن مقره عمله لا يبعد عن المنزل سوى كيلومترات قليلة .
شكوك فلورنس زادت بعد أن جمعتها الصدفة بامرأة يعمل زوجها فعلا في منظمة الصحة العالمية , تلك المرأة سألتها فيما إذا كانت تنوي حضور حفلة رأس السنة لهذا العام في مقر المنظمة .
لكن أي حفلة رأس سنة ؟! .. تساءلت فلورنس باستغراب .
فأخبرتها المرأة بأن منظمة الصحة العالمية تقيم حفلا سنويا لموظفيها وعائلاتهم بمناسبة رأس السنة الميلادية .
كيف أذن لم يصطحبها جان كلود إلى مثل هذه الحفلة طوال عشرة أعوام ؟ .. تساءلت فلورنس مع نفسها والشك والخوف يأكل قلبها .
ثم أتت الطامة الكبرى , عندما اخبرها أحد أصدقاء العائلة بأنه كان في جنيف وحاول زيارة جان كلود في مقر عمله فأخبروه بأنه لا يوجد لديهم موظف بهذا الاسم . وللتأكد اتصلت هي نفسها بمقر المنظمة عدة مرات لتسأل عن زوجها فأخبروها بعد إلحاح طويل منها بنفس الكلام .. لا يوجد موظف بهذا الاسم ! ..
وحين واجهت فلورنس زوجها بهذه الحقائق حاول التملص كعادته عن طريق اختراع المزيد من الأكاذيب زاعما بأن وظيفته سرية لذلك لا تبوح المنظمة بأسمه , لكن الكذبة لم تنطلي على فلورنس هذه المرة , وأدرك هو جيدا بأن نهاية درب الكذب أصبحت أقرب من أي وقت مضى .
ساعة الحقيقة
أحاول أن أضع نفسي مكان جان كلود , لا أقول أني أتعاطف معه , لا أبدا , لكني أتخيل نفسي في نفس الموقف , أقف فوق صرح شاهق من الأكاذيب على وشك أن ينهار ويأخذ كل شيء معه إلى الهاوية , كيف كنت سأتصرف ؟ .. على الأغلب كنت سأهرب , أو أذهب وأسلم نفسي للسلطات وأتعفن لبقية حياتي في السجن لأني أستحق ذلك .
لكن مشكلة جان كلود التي رافقته منذ طفولته هو أنه كان يخشى مواجهة الحقيقة وتحمل عواقب أخطاءه , كان يحاول أرضاء الجميع عن طريق الكذب , ويرتعب من فكرة أن ينظر إليه الآخرون كفاشل . وها هو الآن يكاد أن يواجه بالحقيقة المرة أقرب وأعز الناس على قلبه , والديه وزوجته وطفليه .. ماذا سيفعل ؟ .. هل سيتركهم يتعذبون ويتألمون بمعرفة الحقيقة , هل بإمكانه تحمل نظرة الازدراء والخيبة في أعينهم ؟ ..
كلا .. لا يمكنه ذلك .. لا يمكنه مواجهة تلك العيون , ولأنه لا يستطيع مواجهتها , كان خياره أن يغلقها إلى الأبد ..
في اليوم التالي لحديثه مع فلورنس حول علمه ذهب جان كلود إلى متجر للأسلحة النارية , أشترى عصا صاعقة , وقنبلتي غاز مسيل للدموع , وبعض الخراطيش مع كاتم صوت لبندقية عيار 22 , وطلب من العامل في المتجر أن يغلف المشتريات بورق الهدايا زاعما بأنها هدية منه لوالده العجوز . وفي طريق عودته أشترى عدة عبوات بلاستيكية من وقود الكيروسين .
في ساعة مبكرة من فجر 9 كانون الثاني / يناير 1993 هاجم جان كلود زوجته فلورنس أثناء نومها وقام بتهشيم رأسها بواسطة شوبك خشبي ( أداة مطبخ تستعمل لفتح وفرش العجائن ) , ضربها حتى الموت , ولم يحاول أخفاء الجثة , بل تركها ممددة فوق السرير كأن شيئا لم يكن واخبر أطفاله حين استيقظوا في الصباح بأن أمهم مريضة وعليهم أن لا يزعجوها .
قام بتحضير الفطور لأطفاله ثم جلس معهم يشاهد الرسوم المتحركة على التلفاز واعتنى بهم طوال اليوم حتى حل المساء , وحين حان وقت النوم أخذهم واحدا تلو الآخر إلى أسرة نومهم , أولا أبنته كارولين (7 أعوام) , وما أن دخلت حجرة نومها حتى باغتها برصاصة في رأسها من بندقيته المزودة بكاتم للصوت , ثم عاد وأخذ أبنه أنطون (5 أعوام) وقتله بنفس الطريقة .
انتهى من قتل عائلته , وبقى والديه , لم يكن باستطاعته تركهما يواجهان خيبة الأمل , وهما العجوزان الفخوران بأبنهما الطبيب والعالم المرموق الذي يعمل لدى منظمة الصحة العالمية .
في الصباح ركب سيارته وتوجه إلى منزلهما , استقبلاه بحفاوة كعادتهما , تناول معهما وجبة الغداء , تبادلا حديثا مرحا كانت الابتسامة خلاله مرسومة على الوجوه , وما أن انتهوا من الطعام حتى خرج من المنزل نحو سيارته , أحضر بندقيته وأمطر والديه بوابل من الرصاص . ولم ينس أن يقتل كلب العائلة العجوز قبل أن يغادر المنزل .
لم يتبقى سوى عشيقته .. أتصل بها ودعاها لتناول العشاء في مطعم فاخر فوافقت , وفي المساء مر على منزلها بالسيارة وأصطحبها معه , وما أن خرجا إلى طريق منعزلة حتى أوقف السيارة بحجة حدوث عطل , وفي عتمة الليل قام بمهاجمة عشيقته , أطلق أولا الغاز المسيل للدموع على وجهها ثم حاول خنقها بواسطة حبل , لكنها قاومت .. وتوسلت .. ولسبب ما توقف جان كلود عن قتلها , أرخى الحبل بعد أن أقسمت بأنها لن تخبر أحدا بما جرى , فركبا السيارة مجددا وهو يعتذر منها معللا ما جرى بحالة عصبية طارئة ألمت به .
جان كلود عاد إلى منزله ذلك المساء , جثث زوجته وطفليه مازالت تقبع هناك , جلس قليلا يشاهد التلفاز , ثم قام وأحضر العبوات التي اشتراها سابقا وبدأ يرش المنزل بالكيروسين , وقبل أن يشعل النار تناول جرعة كبيرة من الحبوب المنومة بغرض الانتحار .
في الساعة الرابعة من صباح ذلك اليوم , 11 كانون الثاني / يناير 1993 , وصل رجال الإطفاء إلى منزل جان كلود بعد أن تسلموا بلاغا بوجود حريق . وقد تمكنوا من إخماد الحريق بسرعة وعثروا على جان كلود فاقدا للوعي في الطابق الأرضي وكذلك على جثث زوجته وطفليه في الطابق العلوي .
تم نقل جان كلود إلى المستشفى , ظل في غيبوبة لبضعة أيام , لكن الأطباء تمكنوا من إنقاذه , وفي هذه الأثناء كانت الشرطة قد عثرت على جثتي والديه .
في البداية رفض جان كلود الحديث إلى الشرطة , لكنه أعترف بكل شيء لاحقا , وقد أثارت قضيته الرأي العام في فرنسا لغرابتها وقسوتها . وشكك الكثيرون في نيته الانتحار , فالحبوب التي تناولها كانت قد انتهت صلاحيتها منذ سنوات طويلة , كما أن طريقة إشعاله للنار في المنزل وتوقيتها كانت ربما تهدف إلى ضمان إنقاذه .
في حزيران / يونيو عام 1996 أجريت محاكمة جان كلود روماند في باريس وانتهت بالحكم عليه بالسجن مدى الحياة .
هناك في السجن تم تشخيص أصابته بمرض نفسي يدعى اضطراب الشخصية النرجسية , المصابون بهذه الحالة يتوهمون بأنهم أشخاص في غاية الأهمية والعظمة وعندهم غرور كبير بقدراتهم وملكاتهم الذاتية . يعتبرون أنفسهم مركز الوجود وكل شيء يدور حولهم , وبأنهم حالة فريدة من نوعها , ويكونون غير قادرين على تقبل النقد ولا يمانعون استغلال الآخرين لتحقيق أغراضهم الخاصة , يتصفون بالكبر والتعجرف ويتوقعون من الجميع احتراما مفرطا , وغالبا ما ينتهي بهم الأمر إلى أمراض الكآبة .
مازال جان كلود قابعا في السجن إلى يومنا هذا , وقد تم تناول قصته بالعديد من الكتب والأفلام السينمائية , أشهرها الفيلم الفرنسي (L'Adversaire ) لعام 2002 .
ختاما ..
ها نحن نرفع القلم ونطوي قصة أخرى من قصص هذا العالم المليء بالفظائع والغرائب . أنظر إلى الساعة بعيون أرهقها الكرى , إنها الثالثة فجرا , رقد السمار فخفتت الأصوات والأنوار , ولم يتبقى في هذا الوجود سوى سكون وظلام .. وآسف وحزن يعتصر قلبي , ليس من أجل ضحايا قصتنا فقط – وجدير بي أن أحزن عليهم - , بل أراني أتساءل مع نفسي بأسى : "يا ترى هل جان كلود وحده عاش أكذوبة كبرى ؟ " , ألم نفعل نحن أيضا ؟ , ألم يشيدوا لنا عالما من الزيف والوهم منذ نعومة أظفارنا , عن الأمة العظيمة والمجد التليد والنصر القريب ... وها هي مدننا تحترق ! , وجموع المفلسين والخائفين والمهاجرين تسعى في ربوع أرضنا المنكوبة المنهوكة على غير هدى , "سكارى وما هم بسكارى" , أظناهم الألم والجوع والرعب ... لكن برغم كل الدمار , وبرغم كل العار والشنار , مازال "جان كلود" يكذب علينا , بهيئات وأشكال شتى , وما زلنا نصدقه ! .. ومازلنا اجبن من أن نتساءل : " لماذا نحن دونا عن خلق الله نعيش هذا البؤس المتواصل ؟ " .. وحتى نصبح أكثر شجاعة فنضع القيد في معصمي "جان كلود" وأمثاله , وحتى نصبح أكثر تفهما وتسامحا وتقبلا وتعقلا .. حتى ذلك الوقت لا يسعني أن أقول لكم سوى : "عمتم مساءا وتصبحون على كذبة جديدة " .
هل للحقيقة وجود ؟
في مقاطعة لونسلو سونييه , إلى الشرق من فرنسا , قرب قمم الألب المكللة بالثلوج , ولد جان كلود روماند عام 1954 لأب يعمل حارس غابة وأم ربة منزل , كانت طفولته سعيدة حسبما يصفها هو قائلا : " لقد نلت أكثر حب يمكن لوالدين أن يمنحاه لطفلهما " . كان الهدوء هو الطابع الغالب على طفولة جان كلود , لكنه تميز على أقرانه بأمرين , أولهما المثابرة والتفوق في الدراسة , وثانيهما التفوق في الكذب ! .. إذ كان كذوبا منذ نعومة أظافره , وقد برر هو ميله للكذب في سن مبكرة بالحفاظ على أعصاب أمه لأنها كانت من النوع الميال للقلق والجزع .
في عام 1971 تخرج جان كلود من الثانوية بتفوق , والمفارقة أنه نال درجة عالية في مادة الفلسفة عن بحث كتبه بعنوان : " هل للحقيقة من وجود ؟ " . وهو عنوان ينطبق تماما على قصة حياته ورحلته الطويلة مع الزيف والكذب .
بعد الثانوية دخل جان كلود كلية الطب , لكنه لم يدرس سوى صفا واحدا , إذ فشل في اجتياز الامتحان النهائي للصف الثاني , بسبب خطأ حدث سهوا في ورقة امتحانه مما أدى لرسوبه بفارق ضئيل , طبعا كان بإمكانه أن يعيد الامتحان وينجح , لكنه لم يفعل ذلك أبدا , ولم يخبر أحدا برسوبه , بل كذب على الجميع , أهله وأصدقاءه وزملاءه , وزعم بأنه نجح في الامتحان بتفوق , والعجيب أن أحدا لم يكتشف كذبه , ولم يلاحظ أيا من زملاءه غياب أسمه عن كشف الناجحين . ولم تنتهي تلك الأكذوبة هنا , بل استمرت لأعوام طويلة , ففي كل عام , وبطرز عجيب وغير مفهوم , كان جان كلود يلتحق بالكلية مع طلبة الصف الثاني , يدرس ويجتهد ويثابر على حضور المحاضرات مثل بقية الطلبة , لكنه لا يدخل إلى الامتحانات النهائية , ولا يظهر من جديد حتى تنتهي , فتراه أول الحاضرين عند ظهور النتائج , وتراه يبالغ في أظهار القلق على نتيجته أمام زملاءه رغم أنه لم يمتحن أصلا , والعجيب أنه كان يدعي النجاح في كل عام وينجو بكذبته ... أستمر هذا المسلسل الغريب لمدة 12 عام ولم ينهيه سوى ارتياب أحد الأساتذة بجان كلود مما أدى لطرده من كلية الطب نهائيا , لكن أحدا من أهله ومعارفه لم يشك في أن جان كلود حاز فعلا على شهادة الدكتوراه , الكل ظنوا بأنه تخرج كطبيب وقد أجاد هو تقمص الدور .
خلال سنوات الدراسة الوهمية أحب جان كلود فتاة تدرس الصيدلة أسمها فلورانس كورلت , كانت علاقتهما متقلبة شابتها بعض القطائع والخلافات , لكن في النهاية نجح جان كلود في استدرار عطف حبيبته لكي تتزوجه , عن طريق كذبة طبعا , حيث زعم بأنه مصاب بمرض خطير فأشفقت عليه , وهكذا تزوج الاثنان عام 1980 , وكان جان كلود حينها مازال يزعم بأنه يدرس الطب أما فلورنس فكانت قد تخرجت وعملت في صيدلية محلية .
منظمة الصحة العالمية
في عام 1983 تم طرد جان كلود من كلية الطب كما أسلفنا , لكنه لم يخبر أحدا بذلك وزعم بأنه أنهى دراسته العليا بامتياز . وطبعا مع انتهاء دراسته , ومع وجود زوجة , كان على جان كلود أن يجد لنفسه عملا . لكن أي عمل ذاك الذي كان سيجده وهو لم ينهي كليته ولا يمتلك شهادة وليست لديه الجرأة للاعتراف أمام زوجته وأهله بأنه كذب عليهم لسنوات طويلة .
الحل الوحيد أمام جان كلود كان أن يستعمل عبقريته في الكذب مجددا . وهكذا أخترع لنفسه عملا وهميا , حيث أقنع الجميع بأنه يعمل كعالم وباحث مرموق في المقر الرئيسي لمنظمة الصحة العالمية في جنيف .
جنيف السويسرية لم تكن تبعد سوى اقل من خمسة كيلومترات عن البلدة الفرنسية التي يسكن فيها جان كلود وزوجته , وهي بلدة بريفيسسان- مون المحاذية للحدود , ولم يكن العبور اليومي بين فرنسا وسويسرا يشكل عقبة أمام جان كلود , فمواطني البلدين يمكنهما العبور بدون فيزا , وهكذا كان جان كلود يستيقظ كل صباح ليتناول فطوره ثم يودع زوجته ويقود سيارته ليذهب إلى مقر عمله على الطرف الآخر من الحدود.
انطلت الكذبة على الجميع لعشرة أعوام .. لكن كيف ؟!! .. ألم تفكر زوجته يوما في أن تتصل به في مقر عمله لأمر طارئ ؟ .. ألم يسأله أهله ومعارفه عن طبيعة عمله ؟ .. ألم يفكر أحد من أصدقاءه بزيارته في مقر عمله ؟ .. كيف تمكن من أن يخفي الحقيقة لعشرة أعوام ؟ ..
في الواقع جان كلود كان قد وضع جميع هذه الأمور بالحسبان وخطط جيدا لتفاديها , أقنع زوجته بعدم جدوى الاتصال به في مقر عمله لأنه وظيفته حساسة وتتخللها الكثير من الاجتماعات والتنقلات . ونفس هذه الحجة كررها لأصدقائه لكي لا يفكر احدهم بزيارته , أما الأسئلة حول طبيعة عمله فكان بارعا في الإجابة عنها لأنه حرص على اقتناء وقراءة جميع نشريات منظمة الصحة العالمية وكانت لديه معلومات وافية حول طبيعة علمها ونشاطها .
طيب إذا كانت وظيفة جان كلود وهمية , وهو لا يعمل فعلا لصالح منظمة الصحة العالمية ... فأين أذن كان يذهب كل صباح ؟!! ..
في الواقع الإجابة على هذا السؤال هي إحدى عجائب قصة جان كلود , فلعشرة أعوام كان الرجل يخرج بسيارته ليدور في الطرقات لساعات طويلة بلا هدى , يحتسى القهوة ببطء في مقهى أو يجلس مطولا في حديقة عامة أو متنزه , يأخذ غفوة في المقعد الخلفي لسيارته , يقرأ جريدة , يطالع كتاب أو نشرية . وأحيانا كان يعبر الحدود فعلا ليقضي بضعة ساعات جالسا في صالة انتظار مطار سويسري محاذي للحدود . كان يحاول قتل الوقت بطرق شتى حتى تحين الساعة الرابعة عصرا , أي موعد عودته إلى المنزل من عمله المزعوم .
ولكي يسبغ المزيد من الواقعية على كذبته كان يخبر زوجته أحيانا بأن لديه رحلة عمل , فكان يغيب لعدة أيام يقضيها غالبا في أحد الفنادق الرخيصة في جنيف , وعند عودته لا ينسى أن يشتري بعض الهدايا من السوق لزوجته ووالديه وأن يأخذ بعض نشريات السفر المجانية من صالة المطار المحاذي للحدود ليقنع الجميع بأنه كان مسافرا فعلا .
أحيانا كان جان كلود يذهب فعلا إلى مقر منظمة الصحة العالمية في جنيف , لكنه كان يدخل كزائر , ولم يتعدى أبدا حدود الطابق الأرضي المتاح لدخول العامة والزوار , وكان لا يفوت أي فرصة في الحصول على كل ما يجود به المقر من كتيبات ونشريات مجانية أو أي شيء آخر يحمل علامة منظمة الصحة العالمية لكي يعود به إلى منزله ويستعمله في إضفاء المزيد من الواقعية على كذبته .
ومن باب الشيء بالشيء يذكر , أقول بأني شخصيا جربت لفترة قصيرة هذه الحياة المتشردة التي عاشها جان كلود , وقد تكون أنت أيضا عزيزي القارئ جربتها في مرحلة ما من حياتك لسبب أو ظرف ما ؛ حيث اضطرتني الظروف قبل سنوات لأن أقيم لفترة قصيرة في شقة أحد الأقارب في مدينة لا أعرف فيها أحدا , الشقة كانت صغيرة , وقريبي ذاك كانت لديه زوجة وبنات شابات , ولكي لا أضايقهم في معيشتهم وحريتهم داخل منزلهم كنت أكذب فأقول بأن لدي أصدقاء في تلك المدينة أود زيارتهم , وهكذا كنت اخرج منذ الصباح الباكر ولا أعود إلا في ساعة متأخرة من الليل , كنت أذرع الشوارع لساعات طويلة حتى تؤلمني قدماي فأجلس على كرسي حديقة عامة أو مقهى أو أتمدد قليلا على سجادة مسجد .. ازور سوقا أو متحفا أو أي شيء يسمح بدخول الناس مجانا .. كم كانت مملة وثقيلة تلك الساعات , خصوصا وأن الجو كان باردا .. الآن أستذكر تلك المحنة التي لم تستمر سوى لأسبوعين أو ثلاث وأتخيل مع نفسي ما عاناه وتجرعه جان كلود لمدة عشرة سنوات من التشرد والسير بلا هدف في الطرقات ... مع اختلاف السبب والغاية طبعا .
ولعل هذا الوقت الطويل جدا من الفراغ الذي أمتلكه جان كلود هو الذي دفعه في مرحلة ما إلى تصيد النساء , فالرجل كان يجلس على ناصية الطريق من الصباح حتى المساء بلا أي عمل سوى أن يبصبص للغادين والرائحين , لا عجب أن يتخذ لنفسه عشيقة , أسمها شانتل ديلاندي , وهي طبيبة أسنان مطلقة , وكان وجودها متنفسا لبعض أيامه الطويلة السائمة .
السماء لا تمطر ذهبا
قد لا يختلف اثنان في براعة جان كلود بالكذب , لقد أخترع لنفسه وظيفة مرموقة وهمية وأقنع الجميع بوجودها , لكن المشكلة هي أن الوظيفة الوهمية لا تدر مالا , فمن أين كان سينفق على عائلته ؟ .. خصوصا بعد أن أصبح أبا لطفلين جميلين .. والغريب أنه كان ينفق بإسراف وهو العاطل عن العمل .. أفضل طعام , أغلى ملابس , أجمل منزل , أفخر أثاث , أحدث سيارة .. فمن أين كان يأتي بالمال ؟.
أظن هذا السؤال , أي من أين سيأتي بالمال , كان أول ما خطر في بال جان كلود حين أخترع وظيفته الوهمية , فالرجل كان كاذبا ولكنه لم يكن أحمق , أدرك مبكرا حاجته الماسة للمال لديمومة أكاذيبه , فتفتق عقله عن حل قائم على الأكاذيب والزيف أيضا .
زعم بأنه وعن طريق عمله في منظمة الصحة العالمية أتيحت له فرصة ذهبية لكي يودع أمواله في حساب مصرفي استثماري ذو نسبة فائدة عالية جدا , 18 % على أصل الوديعة بعد الضرائب . كانت كذبة مغرية جعلت والديه العجوزين يتوسلانه في أن يضع مبلغا من المال باسمهما في ذلك الحساب , وهكذا حصل على جميع مدخراتهما , إضافة إلى مدخرات عمه كلود , وكذلك والدي زوجته المتقاعدان اللذان لم يكتفيا فقط بإعطاء كل مدخراتهما لصهرهما العتيد وتبلغ قيمتها 400 ألف فرنك , بل باعا منزلهما أيضا وأعطياه المبلغ كاملا , مليون فرنك . وكذلك أخذ جان كلود مبلغ 900 ألف فرنك من عشيقته .
بالمجموع حصل جان كلود على مبلغ يزيد في قيمته عن 2.5 مليون دولار . إضافة إلى ذلك لم يكن جان كلود يتورع عن بيع أكاذيبه وتحويلها إلى نقود متى ما أتيحت له الفرصة لفعل ذلك , فعندما أصيب عم زوجته بالسرطان أقنعه جان كلود بوجود دواء سري جديد متاح لمراكز البحوث في منظمة الصحة العالمية فقط وله قدرة عجيبة على شفاء جميع أنواع الأورام الخبيثة , وسعر الحقنة الواحدة من هذا الدواء السحري تبلغ 15000 فرنك سويسري , وقد أشترى العم المريض عدة حقن أملا بالشفاء وهو لا يعلم بأن ما حقنه به جان كلود لم يكن سوى أبرا مسكنة لا يتجاوز سعرها في الصيدليات الخمس فرنكات .
حبل الكذب قصير !
يقال أن حبل الكذب قصير , مع أني أراه طويلا جدا بالنسبة لبطل قصتنا , ذلك أنه أستمر لاثنان وعشرون عاما , لكن مهما طال الحبل فله نهاية حتما , وتلك النهاية كانت على شكل حلقة ألتفت حول عنق جان كلود وبدأت تخنقه أكثر فأكثر بمرور الأيام .
إسرافه الزائد عن الحد , وكذلك الفوائد التي كان يجب أن يدفعها عن الودائع في حسابه الوهمي , كل ذلك أدى إلى تبخر الأموال التي جمعها على طول السنوات من أقاربه , وبدأت المشاكل تواجهه .
أول تلك المشاكل كانت مع والد زوجته الذي طالب بسحب جزء من رصيده الاستثماري لدى جان كلود , حدث ذلك عام 1988 , لكن جان كلود أستطاع تجاوز تلك المشكلة , فبعد أسبوعين فقط على ذلك الطلب سقط والد زوجته عن السلم ومات , ولم يكن معه في المنزل ساعة سقوطه وموته سوى صهره جان كلود , وبالطبع لم تجري الشرطة أية تحقيقات أضافية أو ترتاب في الأمر وسجلت الحادثة على أنها قضاء وقدر .
أستطاع جان كلود تأجيل الفضيحة لفترة , لكن ليس إلى الأبد , فحلقة الأكاذيب الملتفة حول عنقه بدأت تضغط على أنفاسه , كان موقنا بأن النهاية قريبة , وقد لاحت تباشيرها مطلع عام 1993 عندما اتصلت به عشيقته وطلبت منه سحب المبلغ الذي استثمرته عنده كاملا . أي التسعمائة ألف فرنك . لكن من أين كان سيأتي لها بالمال , فحسابه الحقيقي في المصرف لم يعد يحوي سوى على بضعة آلاف من الفرنكات بعد أن أسرف في أنفاق المال خلال السنوات المنصرمة .
وفي نفس الوقت بدأ يواجه مشاكل مع زوجته , كانت فلورنس ترتاب في مسألة عمله منذ فترة طويلة , أحيانا كانت تمزح أمام صديقاتها وتقول بأنها يوما ما قد تكتشف بأن زوجها يعمل جاسوسا . كانت شكوكها منطقية , فهي لم تستطع الاتصال بزوجها في محل عمله ولا مرة واحدة على مدى عشرة سنوات ! .. وهو لم يأخذها يوما إلى مناسبة أو حفلة تتعلق بعمله , ولم تتعرف أبدا على أي من زملاءه مع أن مقره عمله لا يبعد عن المنزل سوى كيلومترات قليلة .
شكوك فلورنس زادت بعد أن جمعتها الصدفة بامرأة يعمل زوجها فعلا في منظمة الصحة العالمية , تلك المرأة سألتها فيما إذا كانت تنوي حضور حفلة رأس السنة لهذا العام في مقر المنظمة .
لكن أي حفلة رأس سنة ؟! .. تساءلت فلورنس باستغراب .
فأخبرتها المرأة بأن منظمة الصحة العالمية تقيم حفلا سنويا لموظفيها وعائلاتهم بمناسبة رأس السنة الميلادية .
كيف أذن لم يصطحبها جان كلود إلى مثل هذه الحفلة طوال عشرة أعوام ؟ .. تساءلت فلورنس مع نفسها والشك والخوف يأكل قلبها .
ثم أتت الطامة الكبرى , عندما اخبرها أحد أصدقاء العائلة بأنه كان في جنيف وحاول زيارة جان كلود في مقر عمله فأخبروه بأنه لا يوجد لديهم موظف بهذا الاسم . وللتأكد اتصلت هي نفسها بمقر المنظمة عدة مرات لتسأل عن زوجها فأخبروها بعد إلحاح طويل منها بنفس الكلام .. لا يوجد موظف بهذا الاسم ! ..
وحين واجهت فلورنس زوجها بهذه الحقائق حاول التملص كعادته عن طريق اختراع المزيد من الأكاذيب زاعما بأن وظيفته سرية لذلك لا تبوح المنظمة بأسمه , لكن الكذبة لم تنطلي على فلورنس هذه المرة , وأدرك هو جيدا بأن نهاية درب الكذب أصبحت أقرب من أي وقت مضى .
ساعة الحقيقة
أحاول أن أضع نفسي مكان جان كلود , لا أقول أني أتعاطف معه , لا أبدا , لكني أتخيل نفسي في نفس الموقف , أقف فوق صرح شاهق من الأكاذيب على وشك أن ينهار ويأخذ كل شيء معه إلى الهاوية , كيف كنت سأتصرف ؟ .. على الأغلب كنت سأهرب , أو أذهب وأسلم نفسي للسلطات وأتعفن لبقية حياتي في السجن لأني أستحق ذلك .
لكن مشكلة جان كلود التي رافقته منذ طفولته هو أنه كان يخشى مواجهة الحقيقة وتحمل عواقب أخطاءه , كان يحاول أرضاء الجميع عن طريق الكذب , ويرتعب من فكرة أن ينظر إليه الآخرون كفاشل . وها هو الآن يكاد أن يواجه بالحقيقة المرة أقرب وأعز الناس على قلبه , والديه وزوجته وطفليه .. ماذا سيفعل ؟ .. هل سيتركهم يتعذبون ويتألمون بمعرفة الحقيقة , هل بإمكانه تحمل نظرة الازدراء والخيبة في أعينهم ؟ ..
كلا .. لا يمكنه ذلك .. لا يمكنه مواجهة تلك العيون , ولأنه لا يستطيع مواجهتها , كان خياره أن يغلقها إلى الأبد ..
في اليوم التالي لحديثه مع فلورنس حول علمه ذهب جان كلود إلى متجر للأسلحة النارية , أشترى عصا صاعقة , وقنبلتي غاز مسيل للدموع , وبعض الخراطيش مع كاتم صوت لبندقية عيار 22 , وطلب من العامل في المتجر أن يغلف المشتريات بورق الهدايا زاعما بأنها هدية منه لوالده العجوز . وفي طريق عودته أشترى عدة عبوات بلاستيكية من وقود الكيروسين .
في ساعة مبكرة من فجر 9 كانون الثاني / يناير 1993 هاجم جان كلود زوجته فلورنس أثناء نومها وقام بتهشيم رأسها بواسطة شوبك خشبي ( أداة مطبخ تستعمل لفتح وفرش العجائن ) , ضربها حتى الموت , ولم يحاول أخفاء الجثة , بل تركها ممددة فوق السرير كأن شيئا لم يكن واخبر أطفاله حين استيقظوا في الصباح بأن أمهم مريضة وعليهم أن لا يزعجوها .
قام بتحضير الفطور لأطفاله ثم جلس معهم يشاهد الرسوم المتحركة على التلفاز واعتنى بهم طوال اليوم حتى حل المساء , وحين حان وقت النوم أخذهم واحدا تلو الآخر إلى أسرة نومهم , أولا أبنته كارولين (7 أعوام) , وما أن دخلت حجرة نومها حتى باغتها برصاصة في رأسها من بندقيته المزودة بكاتم للصوت , ثم عاد وأخذ أبنه أنطون (5 أعوام) وقتله بنفس الطريقة .
انتهى من قتل عائلته , وبقى والديه , لم يكن باستطاعته تركهما يواجهان خيبة الأمل , وهما العجوزان الفخوران بأبنهما الطبيب والعالم المرموق الذي يعمل لدى منظمة الصحة العالمية .
في الصباح ركب سيارته وتوجه إلى منزلهما , استقبلاه بحفاوة كعادتهما , تناول معهما وجبة الغداء , تبادلا حديثا مرحا كانت الابتسامة خلاله مرسومة على الوجوه , وما أن انتهوا من الطعام حتى خرج من المنزل نحو سيارته , أحضر بندقيته وأمطر والديه بوابل من الرصاص . ولم ينس أن يقتل كلب العائلة العجوز قبل أن يغادر المنزل .
لم يتبقى سوى عشيقته .. أتصل بها ودعاها لتناول العشاء في مطعم فاخر فوافقت , وفي المساء مر على منزلها بالسيارة وأصطحبها معه , وما أن خرجا إلى طريق منعزلة حتى أوقف السيارة بحجة حدوث عطل , وفي عتمة الليل قام بمهاجمة عشيقته , أطلق أولا الغاز المسيل للدموع على وجهها ثم حاول خنقها بواسطة حبل , لكنها قاومت .. وتوسلت .. ولسبب ما توقف جان كلود عن قتلها , أرخى الحبل بعد أن أقسمت بأنها لن تخبر أحدا بما جرى , فركبا السيارة مجددا وهو يعتذر منها معللا ما جرى بحالة عصبية طارئة ألمت به .
جان كلود عاد إلى منزله ذلك المساء , جثث زوجته وطفليه مازالت تقبع هناك , جلس قليلا يشاهد التلفاز , ثم قام وأحضر العبوات التي اشتراها سابقا وبدأ يرش المنزل بالكيروسين , وقبل أن يشعل النار تناول جرعة كبيرة من الحبوب المنومة بغرض الانتحار .
في الساعة الرابعة من صباح ذلك اليوم , 11 كانون الثاني / يناير 1993 , وصل رجال الإطفاء إلى منزل جان كلود بعد أن تسلموا بلاغا بوجود حريق . وقد تمكنوا من إخماد الحريق بسرعة وعثروا على جان كلود فاقدا للوعي في الطابق الأرضي وكذلك على جثث زوجته وطفليه في الطابق العلوي .
تم نقل جان كلود إلى المستشفى , ظل في غيبوبة لبضعة أيام , لكن الأطباء تمكنوا من إنقاذه , وفي هذه الأثناء كانت الشرطة قد عثرت على جثتي والديه .
في البداية رفض جان كلود الحديث إلى الشرطة , لكنه أعترف بكل شيء لاحقا , وقد أثارت قضيته الرأي العام في فرنسا لغرابتها وقسوتها . وشكك الكثيرون في نيته الانتحار , فالحبوب التي تناولها كانت قد انتهت صلاحيتها منذ سنوات طويلة , كما أن طريقة إشعاله للنار في المنزل وتوقيتها كانت ربما تهدف إلى ضمان إنقاذه .
في حزيران / يونيو عام 1996 أجريت محاكمة جان كلود روماند في باريس وانتهت بالحكم عليه بالسجن مدى الحياة .
هناك في السجن تم تشخيص أصابته بمرض نفسي يدعى اضطراب الشخصية النرجسية , المصابون بهذه الحالة يتوهمون بأنهم أشخاص في غاية الأهمية والعظمة وعندهم غرور كبير بقدراتهم وملكاتهم الذاتية . يعتبرون أنفسهم مركز الوجود وكل شيء يدور حولهم , وبأنهم حالة فريدة من نوعها , ويكونون غير قادرين على تقبل النقد ولا يمانعون استغلال الآخرين لتحقيق أغراضهم الخاصة , يتصفون بالكبر والتعجرف ويتوقعون من الجميع احتراما مفرطا , وغالبا ما ينتهي بهم الأمر إلى أمراض الكآبة .
مازال جان كلود قابعا في السجن إلى يومنا هذا , وقد تم تناول قصته بالعديد من الكتب والأفلام السينمائية , أشهرها الفيلم الفرنسي (L'Adversaire ) لعام 2002 .
ختاما ..
ها نحن نرفع القلم ونطوي قصة أخرى من قصص هذا العالم المليء بالفظائع والغرائب . أنظر إلى الساعة بعيون أرهقها الكرى , إنها الثالثة فجرا , رقد السمار فخفتت الأصوات والأنوار , ولم يتبقى في هذا الوجود سوى سكون وظلام .. وآسف وحزن يعتصر قلبي , ليس من أجل ضحايا قصتنا فقط – وجدير بي أن أحزن عليهم - , بل أراني أتساءل مع نفسي بأسى : "يا ترى هل جان كلود وحده عاش أكذوبة كبرى ؟ " , ألم نفعل نحن أيضا ؟ , ألم يشيدوا لنا عالما من الزيف والوهم منذ نعومة أظفارنا , عن الأمة العظيمة والمجد التليد والنصر القريب ... وها هي مدننا تحترق ! , وجموع المفلسين والخائفين والمهاجرين تسعى في ربوع أرضنا المنكوبة المنهوكة على غير هدى , "سكارى وما هم بسكارى" , أظناهم الألم والجوع والرعب ... لكن برغم كل الدمار , وبرغم كل العار والشنار , مازال "جان كلود" يكذب علينا , بهيئات وأشكال شتى , وما زلنا نصدقه ! .. ومازلنا اجبن من أن نتساءل : " لماذا نحن دونا عن خلق الله نعيش هذا البؤس المتواصل ؟ " .. وحتى نصبح أكثر شجاعة فنضع القيد في معصمي "جان كلود" وأمثاله , وحتى نصبح أكثر تفهما وتسامحا وتقبلا وتعقلا .. حتى ذلك الوقت لا يسعني أن أقول لكم سوى : "عمتم مساءا وتصبحون على كذبة جديدة " .