دم المماليك (9).. المظفر بيبرس الجاشكنير.. السلطان المطرود بزفّة من الشعب

القاهرة – قلعة الجبل

فبراير 1310م

ما كان يمر به السلطان المظفر بيبرس الجاشنكير هو أكثر ما يستحق أن يوصف بأن العالم يتهاوى من حوله!

تابع بنظراته الزائغة جنده وهم يقومون -عمليا- بنهب خزائن القلعة تنفيذًا لأوامره ليصطحبها معه إلى منفاه، ثم بعد بلوغه مأمنه يُعلِن الأمراء للعامة رسميا نزوله عن الحكم للناصر محمد بن قلاوون المعسكر بجيشه وأنصاره عند حدود مصر والشام مستعدا لدهم البلاد واسترداد عرشه وعرش أبيه.

مجهود سنوات من الرقص على أحبال السياسة والسلطة يُسحَق كعود خوص هش دعسته قدم فيل.

استوقف بعض رجاله وسأله عن نائبه “سلار”.. أين اختفى، فأجابته نظرات الخيبة الصامتة.

عاد بأفكاره للناصر محمد.. بحق الله! لقد أهمل أمر هذا الفتى، غرّه تكرار وضعه على العرش وخلعه عنه.. المرة الأولى كانت تنصيبه وهو ابن تسع سنين بعد مقتل أخيه الأكبر خليل، ثم خلعه كتبغا وحبسه في الحرملك لينفيه بعدها للكرك، ثم خلع لاجين كتبغا وأرسل للناصر يخبره أنه وإن تلقب بالسلطان، فإنه في حقيقة الأمر ينوب عنه حتى يرشد، فيرد له عرشه مقابل أن يصبح هو -لاجين- نائبا على الشام كما كان سابقا، وبغض النظر عن مدى اتفاق نوايا لاجين مع وعده فإن الناصر قد عاد لكرسي السلطنة وهو ابن أربعة عشر عاما باتفاق الأمراء عليه بعد مقتل لاجين، وتربع السلطان المراهق على العرش، وحلف له الأمراء أيمان الولاء وصار سلار نائب السلطنة وبيبرس الجاشنكير “الإستادار” (القائم بإدارة البيت السلطاني ونفقاته واحتياجاته).

بيبرس وسلار متنافسان وحليفان في آن واحد، لم يمنع اختلاف الجنس -بيبرس جركسي وسلار مغولي- اتفاقهما ولم يمنع توافق المصالح توجيه كل منهما بعضا من نغزات المهاميز في جنب الآخر.. يعين بيبرس أحد رجاله وزيرا فيضع سلار أحد أتباعه كاتبا للسر، يدعم أحدهما بعض الأمراء فيؤيد الآخر خصومهم، لكنهما يدا واحدة على مبدأ واحد: التضييق على الناصر في تصرفاته ومحاصرته بحيث لا يكون نصيبه من السلطنة سوى الاسم دون الفعل.. ابتلعا البلد عمليا وانشغلا ومعهما باقي الأمراء في تبادُل المعموليات والمعموليات المضادة، حتى انهار الأمن الداخلي واستقوت عصابات عربان الصعيد فصار المنسَر (اللصوص المسلحون) يهاجمون القرى ويعبثون بها. ولأن أهل مصر أبناء نكتة فقد غيّر أكبر شيخان للمنسر اسميهما، فحمل أحدهما اسم بيبرس والآخر اسم سلار كأنما يقولان ضمنيا “نحن لصوص وأنتم لصوص، فقط نحن نسرق بعض المواشي والغلال وأنتما تسرقان الدولة كلها”، ولأن السلطة لا تملك روح الدعابة فقد خرجت تجريدة من القاهرة لتدهم الصعيد وتوقع بالعربان مقتلة مريعة.. هل تعرف التوسيط؟ هو ببساطة وسيلة إعدام بضرب أسفل السرة بسيف حاد لينفصل النصف السفلي للجسد عن ذلك العلوي وتتهدل الأمعاء إلى الأرض.. حسنا.. بعض المؤرخون تحدثوا عن قيام جنود سلار وبيبرس بتنفيذ هذا العقاب بحق نحو عشرة آلاف من عربان الصعيد!

ثم يحصل الأميران الحليفان/الخصمان على هدنة بسيطة من التآمر الداخلي عندما هدد المغول الشام، ثم بعد الانتهاء -مؤقتا- من الخطر المغولي عادا للمعموليات والمهاميز والـ.. إحم.. استغفر الله العظيم.

عشر سنوات على هذا الحال، الناصر له لقب السلطنة والدعاء على المنابر، وبيبرس وسلار لهما الفعل والحل والعقد.. كيف غفلا عن أن تلك السنوات كانت كافية ليختفي ذلك الطفل المذعور المرتبك -محمد بن قلاوون- ويحل محله شاب شديد الدهاء يجيد التخطيط لاسترداد ما يراه حقا له؟

لم يحسا بخطره إلا عندما عرفا من عيونهما المبثوثة حوله أنه اتفق مع الأمير بكتمر الجوكندار على اعتقالهما فور صعودهما للقلعة للاجتماع بالسلطان، فسارعا بالتدخُل والإطاحة ببكتمر لبعض ولايات الشام وزادا من التضييق على الشاب.. حتى استدعاهما يوما وأبلغهما رغبته التوجه للحج مع حريمه وعياله فرحبا بالفكرة على سبيل الاستراحة من شكواه الدائمة من الحجر عليه.. ويخرج الناصر وقد أحس المقربون منه من الأمراء والمتعاطفون معه من العامة أنه خروج المفارق لكرسي السلطنة، فيبكي الناس وهم يلوحون لموكبه الذي ما أن بلغ حدود مصر والشام حتى انحرف عن طريق الحج وتوجه إلى الكرك بالأردن ليرسل من هناك رسالة إلى كل من بيبرس وسلار أنه قد اختار اعتزال الحكم وأعبائه وصراعاته، وترك لهم العرش يولونه من يشاءون.

يجز بيبرس على أسنانه وهو يتذكر هذه النقطة.. فاعتزال الحكم كان أول حركة بالغة الدهاء للفتى الذي يدرك أن وجوده كسلطان صوري له شرعية وراثية هو الحائط المانع للصدام بين القطبين القويين بيبرس وسلار اللذان سارع كلا منهما للاجتماع برجاله وأتباعه الذين أخذوا يزينون له الوثوب على الكرسي، ولأن سلار كان الأكثر دهاء والأكثر إدراكا أن السلطان القادم سيكون على كف عفريت، فإنه لم يخضع لإلحاح أنصاره، فكان أول ما نطق به في الاجتماع العام للأمراء هو: “أنا ما أصلح للسلطنة ولا يصلح لها إلا أخي هذا” مشيرا لبيبرس الذي التقم رجاله الطعم فهتفوا له وجعلوا الجاويشية (الجند) يهتفون باسمه من فوق أسوار القلعة.. وزاد سلار فطلب أن يسمح له السلطان بيبرس -باعتبار ما سيكون- أن يعتزل السياسة ويعيش أيامه الأخيرة في دعة وسلام، فحاول هذا الأخير رد التوريطة له وقال: “إن ما كنت أنت تعمل نائب لي أنا ما أعمل سلطان!”.. وهكذا كان.. فصار بيبرس هو السلطان المظفر ركن بيبرس الجاشنكير، والأمير سلار نائب السلطنة وكافل الممالك، ودعما ذلك بإعلان مباركة الخليفة العباسي -الألعوبة- وقضاة الشرع الشريف لذلك.

وكأنما كانت تلك فاتحة العواصف.. فكبار نواب الشام صاروا بين رافض للاعتراف بحكم بيبرس أو منتفض عليه بعد اعتراف سابق بسبب الوعد والوعيد.

وفي نفس الوقت بلغت السلطان أنباء أن الناصر يكثر من الركوب للصيد في أنحاء الكرك، فخشى أن يكون انتقاله إليها مجرد مناورة للاستقواء ثم العودة لمصر وانتزاع العرش.. وفي حركة هوجاء سارع بيبرس بإرسال بعض أمرائه للناصر يطالبه بجفاء أن يعيد ما حمل معه من أموال وخيول وأن يكتفي في الكرك بعشرة مماليك يخدمونه، ويرد الناصر مستعطفا السلطان ومخاطبا إياه بأن “وأنا لم أعرف أبا لي غيرك فأنت الذي رباني”، فيعيد السلطان طلبه بإلحاح.. وهنا تصبح للناصر ذريعة لاستعداء المتمردين من أمراء الشام على بيبرس، فيراسلهم مخاطبا فيهم الولاء لأبيه الراحل قلاوون بحكم أن أغلبهم من مماليكه، ويشكو لهم مما يلقى من مضايقة السلطان له، فينضمون واحدا تلو الآخر له، وحتى جمال الدين الأفرم -نائب الشام- الممانع للتمرد على بيبرس يغير موقفه فينضم لجبهة الناصر، ويهتف له الناس في مسجد دمشق.. ويتسرب الجند والأمراء من القاهرة عند بيبرس لينضموا للناصر ويعلنون له الولاء، والناصر يتقدم بكل هؤلاء حتى يصل إلى غزة ويستعد ليدهم غريمه في عقر داره.

أما في القاهرة فقد تكالبت المصائب على السلطان.. فالنيل لم يوف الارتفاع المطلوب، والناس يتحدثون بأن بيبرس هذا قدمه شؤم على البلاد، فيسخرون منه ومن نائبه ويغنون “سلطاننا ركين.. ونايبه دقين.. يجيء الماء من أين.. هاتوا لنا الأعرج يأتي الماء يدحرج” (ركين تحريف لركن الدين، ودقين لأن النائب سلار كانت لحيته خفيفة والأعرج كناية عن الناصر لأن كان به عرجا من إصابة سابقة).. ويقولون: “الله يخون من يخون ابن قلاوون”، ولأن السلطان الجديد أرعن وأهوج، فإنه لا يمتص غضب العامة بل يعتقل جمعا منهم تظاهروا عند القلعة فيرسم بضرب بعضهم بالمقارع وتجريسه في القاهرة، وقطع ألسنة البعض الآخر.. فلا يردعهم هذا..  فعندما اقتربت قوات الناصر من مصر، وطلب بيبرس من الخليفة أن يجدد العهد له كسلطان للمسلمين وأن يقرأه القضاة في المسجد الكبير، هتف العامة ضد السلطان بـ “لا.. لا نرضاه” وعندما بلغ القاضي في قراءة الكتاب مقطعا يتهم فيه الخليفة الناصر أنه “خارجي” وأن قتاله واجب، هب العوام وهتفوا بحياة الناصر وسلطنته، وانطلقت المظاهرات المؤيدة له تجوب القاهرة وتحاصر قلعة الجبل.

وسلار كل هذا في اختفاء ومراوغة.. وأتباع بيبرس يشيرون له كل حين بإصبع اتهام أن لابد أن له يدا فيما يجري.. وبيبرس لا يتخذ موقفا من ذلك.. وأخيرا ينطق سلار وينصح السلطان بالنزول عن العرش ومراسلة الناصر لطلب الأمان لنفسه.. وبالفعل نفذ بيبرس النصيحة وخلع نفسه بحضور قضاة المذاهب الأربعة، وأرسل للناصر الذي كان يستعد للمعركة يبلغه قراره ويطلب منه السماح له بالإقامة في بعض مدن الشام.. ما لم يعرفه بيبرس أن الساعة التي نزل فيها عن العرش كانت نفس ساعة وصول الناصر لمصر، وأن هذا الأخير حين بلغه خبر استسلام خصمه، صاح “الحمد لله الذي حقن دماء المسلمين”

اقترب أحد رجاله منه.. أخرجه من شروده مخبرا إياه أن الجند قد حمّلوا الخزائن على ظهور الدواب، فأشار له بالانطلاق وأنه سيلحق به.. بقي يتأمل الكرسي شاردا، ثم غادر القاعة لينطلق بالقافلة قبل أن يشعر العوام بما يحدث في القلعة.

……….

لا يعرف من أين جاء أول حجر، لكن سرعان ما انهالت على الرَكب أمطار من الأحجار والأوساخ من كل اتجاه، ثم تبعتها جحافل من العوام المسلح رجالهم بالهراوات والسكاكين والأحجار، ونساؤهم بالسباب النسواني المسجوع والزغاريد المحرضة.. القافلة المستترة في الظلام تحولت إلى زفة دامية أحياها أهل المحروسة.. حاول الجند أن يستلوا سيوفهم، لكن سيدهم المخلوع أدرك أنهم إن أسقطوا واحدا برز عوضا عنه عشر، فأمرهم بإلقاء حفنات من الذهب على الناس لينشغلوا بها، لكن الناس تجاهلوا الذهب وداسوه وهم يتقدمون من موكب الفرار.. يلمح بيبرس مشاهد متقطعة..هذا رجل أربعيني يحاول إسقاط بعض الجند عن خيلهم وذاك صبي يصوّب إلى الرؤوس أحجارا صغيرة حادة الأطراف، وهذه امرأة تزغرد مشلشلة بطرحتها وهي تؤدي بأصابعها رقصة بذيئة على شرف السلطان الهارب.. لا يجدي نثر الذهب نفعا، فيعود الجند لاستلال سيوفهم وهم يسرعون بالفرار. ورغم ضآلة عدد الجنود مقارنة بالناس، إلا أن المهاجِمين قد التزموا أماكنهم وأوقفوا الهجوم وتراصوا في وضع الفُرجة بين متكيء على هراوته وداس لسكينه في حزامه ولم يتقدم منهم سوى غلام حافٍ متسخ الوجه والملبس سلت سرواله وصوب بوله بحماس باتجاه الرَكب الهارب وهو يرقص خصره بسخرية.. يستغرب المخلوع امتناع العامة عن استكمال هجومهم، ثم يدرك أنهم قد فضَلوا تركه يحيا بتلك الذكرى المخزية عن احتمال أن ينال في قتاله معهم قتلة تغسل بعض عار فراره.. أهل مصر أبناء نكتة.. وهم يجيدون توجيه النكات القاسية!

من القاهرة توجه إلى قرية أطفيح بالجيزة.. راسل السلطان طالبا الأمان لنفسه، شجّعه أن سلار حصل على أمان مماثل وسُمِحَ له بالاعتزال والسفر إلى الشوبك بالأردن.. أرسل له السلطان منديل الأمان.. رغم شعوره بالاطمئنان نسبيا، إلا أنه حاول الفرار إلى الشام، فاتخذها الناصر ذريعة وأمر باعتقاله وإحضاره إليه.

……….

جحظت عيناه حتى اختلطت الألوان في بصره ثم اسودت الرؤية.. احتقنت عروقه وبرزت فكأنها ستمزق جلد وجهه المحمر.. شعر بالدم السائل من جلده الممزق من أثر ضغط الوتر على عنقه يلوث أعلى جسده، وبوله الذي فقد السيطرة عليه يلوث أسفله.. سلخ الوتر جلد عنقه بعد أن انهار ارتكازه على قدميه، فصار معلقا بكل ثقل جسده من الوتر القابض على طرفيه المشاعلي (الجلاد) الذي خفف ضغطه بإشارة من يد السلطان الناصر محمد بن قلاوون.. تقدم هذا الأخير من بيبرس الجاشنكير، فجذب الجلاد ضحيته مجبرا إياه على الاعتدال في حضرة السلطان، الذي قال له بهدوء لا يشي بالإعصار المعربد بداخله: “لا لا.. لا تمت الآن.. اعط نفسك فرصة بينما أنت تُعذب أن تتذكر كل مرة ضيقت فيها عليّ وحجرت فيها على حقي.. تذكر كم شفاعة لي في إنسان رددتها.. كم أمر لي أسقطته”.. تأمل بتمعُن متشفي سلخة جلد متدلية من تحت الوتر نصف المضغوط على العنق وأردف: “بل إنك حتى ضيقت عليّ في طعامي.. تذكر ذلك اليوم الذي اشتهيت فيه أوزة مشوية؟ أتذكر ردك جيدا: ماذا يفعل بالأوز.. أهو الأكل عشرين مرة في اليوم؟”.. داعب سلخة الجلد الدامية بطرف سبابته، ثم باشمئزاز الدم العالق بالسبابة بثوب بيبرس، ثم استطرد وهو يشير للمشاعلي أن يكمل عمله: “لعلك إذن تكفّر عن حرمانك إياي متعي البريئة بمنحي متعة مشاهدتك وأنت تُحرَم حتى أنفاسك الأخيرة!”

……….

كانت لبيبرس الجاشنكير خطايا كثيرة، لكن أخطرها كانت الاستهانة بالتحول الذي أصاب الناصر محمد.. سلار أيضا دفع ثمن ارتكابه نفس الخطأ، فبعد نفيه للشوبك أُمر باعتقاله وحبسه.. وعندما رفض تناول الطعام والشراب وهو في محبسه كنوع من التهديد، أمر الناصر بقطع الطعام والشراب عنه حتى مات جوعا وعطشا، ويقال إنهم عند فتح حبسه والعثور عليه ميتا، وجدوه قد أكل نعله من شدة الجوع.. عاد الناصر للعرش وقد عزم على أن ينتقم من كل من استهتروا به وأهانوه.. فأطاح بكل أمراء بيبرس وسلار واعتقلهم ووضع مكانهم رجاله، وفي نفس الوقت شمّر ليصل ما فسد في المملكة بسبب صراع الأمراء، وتلك الفترة الطويلة من اضطراب السلطة وانعدام استقرارها.

حكم الناصر محمد بعد عودته الثالثة لمدة 30 عاما، تنفست فيها مصر والشام الصعداء لتعطل صراع الأمراء وسفكهم دماء بعضهم بعضا، وشهدت أخيرا حاكما مات على فراشه.. لكن، بعد موت الناصر محمد بن قلاوون، دارت ساقية الدم بأسرع مما كانت عليه، لتصيب الباقين من آل قلاوون، وتجعل لهم النصيب الأكبر في السلاطين المقتولين!

(يتبع)

محتويات الموضوع