في أول يناير من العام 1917 طفت جثة رجل متجمدة على سطح مياه نيافا تحت جسر بتروفسكي في بطرسبورج وكان من الصعب التعرف على صاحبها ، وفيما بعد تبين أنها جثة أسوء رجال الدين سمعة في التاريخ .. الرجل الذي أعتبره الناس قوة شريرة خارقة داخل الحكم القيصري الروسي ، ولقي مئات الألوف حتفهم بسبب عجز الحكومة تحت سيطرته . وبرأي الكثيرون من أفراد الطبقة العليا في المجتمع الروسي فأن هذا الرجل كان بالفعل مصدر كل مشاكل روسيا القيصرية . أما بالنسبة لأعدائه فقد كان تجسيدا للشر الذي دمر كل من تجرأ على الوقوف في طريقه إلى السلطة معتمدا أسلوب القتل والفساد مما أدى إلى تقويض سمعة عائلة رومانوف الحاكمة .. الأمر الذي أدى لاحقا إلى خلعها وإعدامها بعد أن حكمت روسيا لثلاثمائة عام .. وبرحيلها تغير تاريخ روسيا إلى الأبد .
في قرية نائية في أعماق سيبيريا ولد جريجوري يفموفيتش راسبوتين في 22 يناير 1869 ، كان مولده نحسا على أسرته ، ففي الثانية عشر من عمره أكلت النيران منزله ، وتوفيت والدته ، وبعدها بفترة قصيرة كان يلعب على ضفة النهر مع شقيقه ميشيل عندما جرفهم النهر فلقي ميشيل حتفه أما راسبوتين فتم إنقاذه من قبل احد الفلاحين وظل في غيبوبة اعتقد البعض انه لن يفلت منها ، لكنه أفاق من غيبوبته وهو يتمتع برؤى روحية غريبة وقدرات عجيبة على شفاء الجروح بمجرد لمسها . وحين بلغ سن المراهقة تزوج وكون عائلة ، وكانت تلك مرحلة مضطربة من حياته ، إذ انضم إلى بعض اللصوص وصار قائدا لهم ، ثم سرعان ما انغمس في حياة الفسق وشرب الخمور ، ولذلك اكتسب اسم "راسبوتين" التي تعنى بالروسية الفاسق الماجن .
كان راسبوتين ضخم الجثة ، طويل القامة ،عريض الصدر، له ذراعان قويتان ، أما راحتا يديه فكانتا كأنهما كلابان من حديد من فرط قوتهما . وكانت الإناث الساقطات ينجذبن إلى هذا الحيوان البدوي الهائل بسهولة ، في الواقع كانت نظرات عينيه النافذة تخترق أعماق النساء فتظن الواحدة منهن بأنها مسحورة أمامه .. لا بل هي مسحورة فعلا .. تمضى مسلوبة الإرادة إلى ذالك الوحش لتجثو أمام قدميه وهى ترتعد ، بل أن الرجال أنفسهم لم يكن احدهم ليجد في نفسه القدرة على مواجهة راسبوتين والتحديق في وجهه طويلا , كانوا يحنون رؤوسهم ويغضون أبصارهم سريعا أمام تلك القوة الخفية التي تشع من ذالك الرجل الغامض .
الناس في القرية راحوا يتداولون الأعاجيب عن كرامات راسبوتين . في إحدى المرات عجز الطبيب عن شفاء إحدى المريضات حتى كادت أن تهلك ، فبعث أهلها في طلب هذا الساحر فذهب إلى فراشها ورفع يديه إلى السماء مصطنعا هبوط الوحي ، باسطا كفيه بحركات تشنجيه على جسد المرأة ، وأخذ في تلاوة ادعيه عجيبة .. وحدثت المعجزة .. على الأرجح عن طريق الإيحاء المغناطيسي .. فنهضت المرأة من فراشها تروح وتغدو كأنها بعثت من رقدة الموت إلى نشاط الحياة . وكانت لراسبوتين أيضا القدرة على كشف السرقات وإخراج اللص من بين الأشخاص من أول نظرة .
اتجه راسبوتين إلى كاهن كنيسة واستغل قوته النفسية الخارقة لإقناع هذا الكاهن بان يعطيه ثيابه الكهنوتية القديمة ومعها شهادة مزورة تثبت انه راهب في الكنيسة وبهذا يستطيع أن يجمع التبرعات من جميع القرى المجاورة .
وطاف راسبوتين في رحلة طويلة إلى قرى سيبيريا ، هناك تعرف إلى طائفة سرية اسمها "خاليستي" كانت تجمع بين الورع والفسق ، وشكلت أفكارها القاعدة التي ارتكزت عليها ممارسات "راسبوتين" فيما بعد .
كانت هذه الطائفة تؤمن ببدعة التقرب إلى الله من خلال الخطيئة ، بمعنى إن الإنسان يجب أن يغوص إلى عمق الخطيئة لكي يفهم معنى التوبة الحقيقية ويحصل على الخلاص . وكلمة "خاليستى" معناها الجلادين ، حيث كان أتباعها يجلدون أنفسهم حتى يصلوا إلى حالة النشوى العارمة وبعدها يبدءون بالجنس الجماعي وشرب الخمر فتظهر لهم بعد ذالك رؤى روحية ، وكانت هذه الطقوس تتم بالخفاء في أماكن سرية داخل الغابات والأودية لأنها كانت ممنوعة وتحارب بشدة من قبل رجال الكنيسة والشرطة .
راسبوتين طاف أنحاء روسيا حاجا كما يدعي ، واستطاع أن يجعل لنفسه اسما كرجل روحاني ، فأنتحل دور المؤمن الشافي وراح يفسد النساء القرويات الورعات ، امتلك حجج وأساليب خاصة في مخاطبة العقول ، فأضحى يقنع أي إنسان انه إذا أراد التوبة فعليه أن يمارس الخطيئة أولا ، وكان يعتبر نفسه الوسيلة التي يخطئ الآخرون بواسطتها ، وبالفعل وقعت نساء كثيرات في فخه ، ولم يطل الأمر حتى أوصلت هذه التركيبة العقلية الخطيرة "راسبوتين" إلى العاصمة بطرسبرج وهو في الرابعة والثلاثين من عمره .
في قرية نائية في أعماق سيبيريا ولد جريجوري يفموفيتش راسبوتين في 22 يناير 1869 ، كان مولده نحسا على أسرته ، ففي الثانية عشر من عمره أكلت النيران منزله ، وتوفيت والدته ، وبعدها بفترة قصيرة كان يلعب على ضفة النهر مع شقيقه ميشيل عندما جرفهم النهر فلقي ميشيل حتفه أما راسبوتين فتم إنقاذه من قبل احد الفلاحين وظل في غيبوبة اعتقد البعض انه لن يفلت منها ، لكنه أفاق من غيبوبته وهو يتمتع برؤى روحية غريبة وقدرات عجيبة على شفاء الجروح بمجرد لمسها . وحين بلغ سن المراهقة تزوج وكون عائلة ، وكانت تلك مرحلة مضطربة من حياته ، إذ انضم إلى بعض اللصوص وصار قائدا لهم ، ثم سرعان ما انغمس في حياة الفسق وشرب الخمور ، ولذلك اكتسب اسم "راسبوتين" التي تعنى بالروسية الفاسق الماجن .
كان راسبوتين ضخم الجثة ، طويل القامة ،عريض الصدر، له ذراعان قويتان ، أما راحتا يديه فكانتا كأنهما كلابان من حديد من فرط قوتهما . وكانت الإناث الساقطات ينجذبن إلى هذا الحيوان البدوي الهائل بسهولة ، في الواقع كانت نظرات عينيه النافذة تخترق أعماق النساء فتظن الواحدة منهن بأنها مسحورة أمامه .. لا بل هي مسحورة فعلا .. تمضى مسلوبة الإرادة إلى ذالك الوحش لتجثو أمام قدميه وهى ترتعد ، بل أن الرجال أنفسهم لم يكن احدهم ليجد في نفسه القدرة على مواجهة راسبوتين والتحديق في وجهه طويلا , كانوا يحنون رؤوسهم ويغضون أبصارهم سريعا أمام تلك القوة الخفية التي تشع من ذالك الرجل الغامض .
الناس في القرية راحوا يتداولون الأعاجيب عن كرامات راسبوتين . في إحدى المرات عجز الطبيب عن شفاء إحدى المريضات حتى كادت أن تهلك ، فبعث أهلها في طلب هذا الساحر فذهب إلى فراشها ورفع يديه إلى السماء مصطنعا هبوط الوحي ، باسطا كفيه بحركات تشنجيه على جسد المرأة ، وأخذ في تلاوة ادعيه عجيبة .. وحدثت المعجزة .. على الأرجح عن طريق الإيحاء المغناطيسي .. فنهضت المرأة من فراشها تروح وتغدو كأنها بعثت من رقدة الموت إلى نشاط الحياة . وكانت لراسبوتين أيضا القدرة على كشف السرقات وإخراج اللص من بين الأشخاص من أول نظرة .
اتجه راسبوتين إلى كاهن كنيسة واستغل قوته النفسية الخارقة لإقناع هذا الكاهن بان يعطيه ثيابه الكهنوتية القديمة ومعها شهادة مزورة تثبت انه راهب في الكنيسة وبهذا يستطيع أن يجمع التبرعات من جميع القرى المجاورة .
وطاف راسبوتين في رحلة طويلة إلى قرى سيبيريا ، هناك تعرف إلى طائفة سرية اسمها "خاليستي" كانت تجمع بين الورع والفسق ، وشكلت أفكارها القاعدة التي ارتكزت عليها ممارسات "راسبوتين" فيما بعد .
كانت هذه الطائفة تؤمن ببدعة التقرب إلى الله من خلال الخطيئة ، بمعنى إن الإنسان يجب أن يغوص إلى عمق الخطيئة لكي يفهم معنى التوبة الحقيقية ويحصل على الخلاص . وكلمة "خاليستى" معناها الجلادين ، حيث كان أتباعها يجلدون أنفسهم حتى يصلوا إلى حالة النشوى العارمة وبعدها يبدءون بالجنس الجماعي وشرب الخمر فتظهر لهم بعد ذالك رؤى روحية ، وكانت هذه الطقوس تتم بالخفاء في أماكن سرية داخل الغابات والأودية لأنها كانت ممنوعة وتحارب بشدة من قبل رجال الكنيسة والشرطة .
راسبوتين طاف أنحاء روسيا حاجا كما يدعي ، واستطاع أن يجعل لنفسه اسما كرجل روحاني ، فأنتحل دور المؤمن الشافي وراح يفسد النساء القرويات الورعات ، امتلك حجج وأساليب خاصة في مخاطبة العقول ، فأضحى يقنع أي إنسان انه إذا أراد التوبة فعليه أن يمارس الخطيئة أولا ، وكان يعتبر نفسه الوسيلة التي يخطئ الآخرون بواسطتها ، وبالفعل وقعت نساء كثيرات في فخه ، ولم يطل الأمر حتى أوصلت هذه التركيبة العقلية الخطيرة "راسبوتين" إلى العاصمة بطرسبرج وهو في الرابعة والثلاثين من عمره .
في ربيع عام 1903 كانت مدينة بطرسبورج مكانا عالميا نابضا بالحياة ، وفى مجالسها وصالوناتها راحت الإشاعات تنتشر حول شاب يدعى "راسبوتين" يتمتع بقوة شفاء مثيرة للفضول .
وعندما وصل "راسبوتين " إلى بطرسبورج كان مظهره بدائيا ، كان يرتدى معطف من الجلد وحذاء قروي وقميص رائحته اقرب إلى رائحة الماعز ، شعره أشعث اسود وطويل ، ولحيته سوداء كثيفة ومتسخة ، وكان يفرق شعره في المنتصف ويسرحه على جبهته ليخفى على ما يبدو اثر جرح ما .. لكن البعض يقولون انه كان يخفى قرنا ! .. وكانوا يشبهونه بالشيطان ، وكانوا يقولون بأن عينيه تشبهان عينا شخص ممسوس .
وفي حقيقة الأمر ما كان لقروي جلف مثل راسبوتين أن يبرز ويشتهر لولا الظروف الحساسة التي كانت تمر بها روسيا في تلك المرحلة من تاريخها ، فخلال السنوات الأولى من القرن العشرين كانت روسيا تعانى من فوضى داخلية وتهديد خارجي ، وكان الأغنياء والنبلاء يسعون وراء التسلية والعبث غير مكترثين بالفقراء والكوارث المحدقة بالبلاد . أما الكنيسة فكانت تبحث بين عامة الناس عن رجل يمتلك قوة روحية حقيقية .. وحتى الحكم القيصري كان يبحث عن أشخاص على شاكلة راسبوتين ليضفي على نفسه نوعا من السلطة الإلهية .. وهكذا فأن سمعة راسبوتين كمبشر ، إضافة إلى الإشاعات حول قدراته الخارقة ، كانت قد سبقته إلى المدينة ومهدت له سبيل الوصول إلى صالونات النبلاء وأغنياء العائلات .
راسبوتين وجد طريقه بسهولة إلى مجالس الطبقة البرجوازية العليا في المدينة ، وهناك قابل سيدة تدعى " اولجالوكينا " كانت تعانى من مرض عضال عجز الأطباء عن علاجه ، لكن راسبوتين اكتشف بأن مرضها مرتبط بجذور الاكتئاب لديها وأقنعها بضرورة امتلاكه لروحها وجسدها لكي يتم علاجها .. ولقد نجح العلاج نجاحا باهرا ! .. وهكذا أصبحت " اولجالوكينا " عشيقة راسبوتين وبدأت تعلمه القراءة والكتابة وآداب السلوك ، ثم قدمته إلى صديقاتها الكونتيسات فانبهرن به أيضا ، وسرعان ما اشتهر بقدرته الخارقة على قراءة المستقبل من خلال نظرة العين .
وفى أوائل نوفمبر 1905 ، في قصر أحد النبلاء ، حدث أول لقاء بين " راسبوتين " والقيصر " نيقولاس الثاني " وزوجته القيصرة " الكسندرا " ، واخذ راسبوتين في الحديث بدون أي تكلفة أو صبغة رسمية إلى القيصر الذي تأثر جدا به وهو يروي لهما عن الحياة المظلمة القاسية في سيبيريا وعن فقر وبؤس البسطاء وصبرهم اللانهائي .. وعن وجود الله في كل أحداث اليوم الصغيرة ، وكيف أعطاه الله قوة روحية ليشفى بها أعصى الأمراض .
ولي العهد المريض
كان وريث العرش الوحيد الطفل " اليكسي" مصاب بمرض نادر وخطير وعضال آنذاك ، وهو مرض الناعور ، ويدعى ( الهيموفيليا ) ، بمعنى أن أي نزيف دموي ناتج عن جرح بسيط لن يتخثر وسيبقى الدم يخرج بصفة مستمرة مما يؤدى بحياة المريض . وكانت القيصرة بحاجة إلى من يشفى ابنها لأنها كانت السبب في جلب مرض الناعور إلى عائلة "رومانوف" ، إذ ورثته عن جدتها فيكتوريا ملكة انجلترا ، وكانت ترى في مرض ابنها عقابا من الله .
وفى العام 1906 تم استدعاء " راسبوتين " إلى قصر القيصر ليروا إذا ما كانت قدراته الشفائية مفيدة أم لا ، وكان لوصوله تأثير مهدئ عجيب على القيصرة التي كانت في حالة هسترية وكانت تظن بان ابنها لن يشفى إلا بمعجزة ، ودون أن يرى ولي العهد الصغير طمأن راسبوتين القيصرة وقال بأن مرض أبنها ليس خطير ثم ذهب إلى غرفة الطفل حيث كان راقدا في السرير ، وما أن لمس " راسبوتين " الطفل حتى توقف نزيف الدم في الحال .. ويبدو أنه استخدم التنويم المغناطيسي الإيحائي في علاج الطفل .. وبعد ذالك أصبح تردد راسبوتين على القصر يزداد أكثر فأكثر ، وأدت حادثة في 1912 إلى ترسيخ موقعه في القصر ، حيث كانت القيصرة تركب الخيل مع ابنها الأمير " اليكسى " الذي سقط عن حصانه وأصيب بنزيف وسالت دماؤه ، ولأن راسبوتين كان مسافرا بعيدا عن العاصمة آنذاك ، فقد أرسلت القيصرة برقية إليه تستعجل عودته . وقد ورد راسبوتين على القيصرة ببرقية جوابية قال فيها: " إن الله استمع إلى صلواتك ورأى دموعك ولهذا فأن طفلك لن يموت ، لكن اخبري الأطباء بالا يزعجونه كثيرا وضعي هذه البرقية فوق رأسه".
وبالفعل أخذت القيصرة البرقية ووضعتها على الأمير فحدثت المعجزة وتوقف النزيف! .. وأدت هذه الحادثة إلى ترسيخ وجود راسبوتين في القصر. وبعد أن ضمن حماية القيصرة التي لم تعد ترى احد سواه ولا تسمع لأحد غيره بدأ راسبوتين بانتهاك كل قواعد العفة والشرف ، كان ذوو شخصية مزدوجة ، فبعدما كان يصلى بحرارة لشفاء الأمير كان يذهب مباشرا إلى دار البغاء ، وكان يتفاخر بقدراته الجنسية بنفس القدر الذي كان يتفاخر فيه بقدراته الروحية . كان كنجم الغناء الذي عرف الشهرة بين ليلة وضحاها فأصبح لا يعرف ماذا يفعل بماله وشهرته . كان يجول منازل الارستقراطيين ويستمتع بإهانة من هم أعلى منه مكانة ، وكان يصل به الأمر ليتحدث إلى السيدات ويتصرف معهن بأسلوب مهين وقذر .. والعجيب أن كل السيدات كن يتقبلن كل شيء منه ويفعلن كل ما يطلبه منهن فلقد شكل بلا ريب مصدرا للافتتان والإعجاب ولم تسلم أي امرأة من تصرفاته .
راسبوتين قسم وقته بين شقق الأثرياء وبين عمله الأسبوعي في القصر ، وبعد مدة قصيرة صار مقيم في جناح القيصرة الخاص بعد أن أقنعت القيصر بان هذا الراهب هو الذي يقدر أن يحمي الجميع ، وكان " راسبوتين " يقوم بدور مستشارها الخاص والمؤتمن على أسرارها ، ومن الواضح أنها كانت ترتاح لوجوده كثيرا ، واهم الأسباب في ذلك يعود لتأثيره المهدئ في أبنها الأمير ، لكن بتقرب راسبوتين أكثر فأكثر من القيصرة كان من الطبيعي أن يزداد عدد الحاقدين والمتآمرين عليه ، فقد سلبهم الرجل منزلتهم ، لكن لم يستطع احد إظهار موقف معادي لراسبوتين لان كل من فعل ذالك كان يسرح من عمله فورا .
لقد امتلأت مقاعد الحكومة بصائدي الثروة وغير الأكفاء ومعظمهم كانوا على استعداد لدفع مبالغ مالية كبيرة لراسبوتين للبقاء في مناصبهم ، فتأثير راسبوتين في البلاط القيصري كان يزداد يوما بعد آخر وصار بإمكانه فعل أي شيء كتعيين أسقف وعزل آخر ، حتى انه عين رؤساء وزارة وعزلهم فيما بعد .
الأمل الأخير لوقف هذا الفساد كان معلقا على وجود وزارة مخلصة ، وكان رئيس الوزراء " بيترستالين " قد جمع بالفعل أدلة كثيرة ضد راسبوتين ، كان يريد أن يثبت للقيصر وزوجته أن هذا الرجل سيء السمعة ومتلاعب ، فجمع ملف ضخم بفضائح راسبوتين ، واثبت الملف أن راسبوتين شرير وانه قادر على جعل القيصر وزوجته دمى يحركها كيفما يشاء . وكان الناس يعتقدون بوجود علاقة جنسية بين راسبوتين والقيصرة .
وبعد أن رأى القيصر المعلومات عرضها على زوجته التي ادعت أنها مجرد أكاذيب وان راسبوتين مضطهد حاله حال القديسين .. ولم تمضى فترة حتى اغتيل رئيس الوزراء " بيترستالين " بإطلاق النار عليه في دار الأوبرا بينما كان يحضر عرضا مع القيصر وزوجته ، وبإزاحة ألد أعدائه عاد " راسبوتين " بقوة إلى الواجهة وعاقب جميع الوزراء فعمت الفوضى وعدم الاستقرار في قلب الحكومة المترهلة . وامتلأت صحف بطرسبورج بقصص ضحايا الاغتصاب وصور كاريكاتيرية هابطة وفاضحة كان راسبوتين محورها طبعا ، ففي احد البطاقات البريدية تظهر صورة لراسبوتين وهو يقف خلف القيصرة ويده فوق صدرها ، ويده هنا تدل على الاستبداد وان راسبوتين هو الذي يمسك بكل قدرات الدولة الروسية من خلال سيطرته على القيصرة .
وفى هذا الوضع السيئ دخلت الدولة الروسية الحرب مع الوحش الألماني فامتلأت الصحف سريعا بأسماء الجنود القتلى .. وارتكب القيصر خطأ فادح عندما غادر العاصمة وانضم إلى الجبهة لقيادة الجيش وترك القيصرة " الكيساندرا " لتراقب أداء الوزراء لكنها لم تقم بالمهمة وحدها بل ساعدها " راسبوتين " حيث صار مستشارا لها ، ومنذ هذه المرحلة اتسع نفوذه وازدادت صلاحياته وامتد تأثيره إلى خط الجبهة وبنتائج مدمرة .
كان القيصر " نيقولاس" قائدا عاما للجيش منذ عام 1915 ، وكان مضطرا للأخذ برأي قادته ، وكان هؤلاء يدركون التأثير السيئ لراسبوتين ، ففي رسالة تلو الأخرى كانت القيصرة تلح على زوجها بتنفيذ كل ما يطلبه مستشارها ، كانت تحذره بأن عدم فعل ذلك سيؤدي إلى هلاك روسيا وعندها سوف يفقد سلطانه ولن يجلس ابنه على العرش . وبرغم محاولات القيصر تجاهل رسائلها وطلباتها إلا أنه خضع لها بالنهاية واستبدل وزير الحربية برجل محب للمال وغير كفء هو فلاديمير سوكامنوف ، وهكذا وقع راسبوتين وثيقة موت ملايين الجنود الروس .. كانت كارثة حقيقية .. فقد كان هناك جنود في الجبهة بلا بنادق وبلا رصاص ، وكانوا يرتدون ملابس صيفية والشتاء على الأبواب فتجمدوا حتى الموت .
في الحقيقة كانت روسيا تحارب بعقلية وأسلحة القرون الوسطى ، بينما كان عدوها متسلحا بأحدث تكنولوجيا القرن العشرين ، وكان الجنود الروس يذبحون ذبحا في ارض المعركة .. كانت الخنادق مليئة بمراهقين غير متمرسين بالقتال ، وكان الجنرالات يفرون بسرعة لينجوا بحياتهم تاركين جنودهم ليلاقوا مصيرهم الأسود ، وأخذت الحرب تسير نحو الأسوأ يوما بعد آخر . وفي جميع مدن روسيا كانت طوابير التوابيت القادمة من الجبهة لا تتوقف ، وأخذ الشعب يتذمر من الوضع العام . كانت رسائل الجنود من الجبهة تشير إلى أن الهزيمة لم تكن فقط بسبب عجز الحكومة ولكن بسبب وجود خيانة داخلها ، وراجت إشاعات عن وجود جماعات موالية للألمان تعطيهم أسرار التحركات والمناورات العسكرية الروسية ، وبالطبع كانت القيصرة الألمانية الأصل ومستشارها راسبوتين هما على رأس قائمة المتهمين .
وبالرغم من محاولة مسئولي القصر طمس تلك الاتهامات ، لكن راسبوتين أبقى جذوة النار مشتعلة ، ففي حادثة شهيرة جدا في مطعم " ايار" اخذ راسبوتين بعض بنات الهوى وبد يثمل ويشير ويلمح انه قادر على جعل القيصرة تتصرف كيفما يشاء ، وقيل أنه في إحدى المرات ركض إلى الشرفة عاريا وصاح أمام الجميع انه هو من يحكم روسيا .. وبالطبع لم تكن صحة تلك الإشاعات مهمة بقدر قابليتها على الانتشار بسرعة بين الناس الذين كانوا يصدقون كل ما يقال عن القيصرة وراسبوتين .
صار الجميع في روسيا يعتبرون راسبوتين شيطانا ، أقارب القيصر حملوه مسئولية إضعاف الحكم القيصري ، والشعب أصبح يعارض بشدة نفوذه وسيطرته على الحكم ، وامتدت هذه المعارضة لتشمل كبار الضباط وأعضاء الحكومة .. لقد أجمع رأي الجميع على أن وجود راسبوتين أصبح غير مرغوب فيه .. وهكذا صارت نهايته على المحك .
محاولة القتل الأولى تعرض لها راسبوتين عام 1914 عندما كان يزور عائلته في سيبيريا ، فبعد مغادرته الكنيسة مساءا هاجمته امرأة وطعنته بالسكين في بطنه وهي تصرخ : "لقد قتلت عدو المسيح" . لكن راسبوتين لم يمت ، شفي من جراحه ونجا .
المحاولة الثانية عام 1916 كانت من تدبير الأمير " يوسوبوف" زوج الأميرة ايرينا ابنة أخ القيصر . الأمير كان من أكثر التواقين للتخلص من راسبوتين ، وفي منزله حيكت خيوط المؤامرة بالاتفاق مع أبن عم القيصر ديمتري بافالويتش والسياسي اليميني فلاديمير برشيكفيتش . كانت الخطوة الأولى تتمثل بدعوة راسبوتين إلى قصر "مويكا" بحجة أن زوجة الأمير يوسوبوف تريد مقابلته ، وقد وقع راسبوتين بالفخ ، فأتى إلى القصر مرتديا ملابسه الأنيقة لاعتقاده بأنه سيقابل زوجة يوسوبوف الجميلة ، وحال دخوله القصر أستقبله يوسوبوف بحفاوة ودعاه للنزول إلى القبو لمقابلة زوجته ، وهناك في القبو قدموا له شرابا وكعكا مسموما يكفي لقتل خمسة أشخاص ، بيد أن راسبوتين لم يتأثر بالسم وظل متماسكا صلبا ، عندها نفذ صبر الأمير يوسوبوف فأمسك مسدسه وأطلق النار على ضيفه مباشرة ، فوقع راسبوتين أرضا وظن القتلة بأنه مات فغادروا ، لكن الأمير يوسوبوف عاد بعد قليل لأخذ معطفه ، وبينما هو بالقبو قرر أن يتفحص الجثة ، فقرب رأسه من وجه راسبوتين ليتأكد من موته ، وهنا فتح راسبوتين عينيه فجأة وأطبق بكل قوته على رقبة الأمير وكاد أن يقتله لولا أن رفاق الأمير سمعوا الجلبة والصراخ فعادوا إلى القبو وأطلقوا النار على راسبوتين ثلاث مرات أخرى ، فسقط أرضا بلا حراك . لكن لم يتركوه هذه المرة ، لقد أيقنوا بأنهم أمام شيطان حقيقي وليس إنسانا كسائر البشر ، فضربوه ورفسوه ووضعوه في عربة ثم أخذوه إلى النهر حيث أغرقوه في مياهه الباردة .
بعد عدة أيام طفت جثة راسبوتين على السطح ، وعندما أخرجوه وجدوا خطابا في جيبه موجها إلى القيصر يقول فيه : " أنى أتوقع أن أموت قتلا هذا العام ، فإن كان قاتلي من عامة الشعب والفلاحين فسوف يستمر عرشك بضع سنوات أخرى ، أما إذا كان القتلة من النبلاء فلا عرش لك ولا لأولادك من بعدك " .
وبالفعل .. بعد ثلاثة أشهر فقط من مقتله تحققت نبوءة راسبوتين فأطاحت الثورة الروسية بالحكم القيصري وقضي على آخر جيل من عائلة "رومانوف" ، وبعدها بتسع شهور تم إعدام القيصر " نيقولاس" وعائلته في سيبيريا .
بعض المؤرخون يعتقدون بأنه لو لم يكن هناك " راسبوتين " لما سقطت العائلة القيصرية بهذه السرعة ولا بهذه الطريقة المأساوية ، فوجوده جلب لها كراهية الشعب الروسي الذي كان يرى في راسبوتين تجسيدا مطلقا للشر ، لا بل أن نجاح الثورة البلشفية ودوامها كان له ارتباط براسبوتين أيضا ، فالثورا راحوا يخوفون الناس من خيانة الثورة بزعم أن خيانتها تعنى عودة الماضي بكل مساوئه وظهور راسبوتين آخر .
وبعد نجاح الثورة أقدم بعض العمال على استخراج جثة راسبوتين من قبره وأحرقوها في غابة مجاورة ، وبحسب الشهود ، فأن الحياة دبت بالجثة أثناء حرقها ، فقامت وجلست القرفصاء وبدا كأنها تريد أن تنهض لولا أن النار أحاطت بها من كل جانب وحولتها إلى رماد ! .
وعندما وصل "راسبوتين " إلى بطرسبورج كان مظهره بدائيا ، كان يرتدى معطف من الجلد وحذاء قروي وقميص رائحته اقرب إلى رائحة الماعز ، شعره أشعث اسود وطويل ، ولحيته سوداء كثيفة ومتسخة ، وكان يفرق شعره في المنتصف ويسرحه على جبهته ليخفى على ما يبدو اثر جرح ما .. لكن البعض يقولون انه كان يخفى قرنا ! .. وكانوا يشبهونه بالشيطان ، وكانوا يقولون بأن عينيه تشبهان عينا شخص ممسوس .
وفي حقيقة الأمر ما كان لقروي جلف مثل راسبوتين أن يبرز ويشتهر لولا الظروف الحساسة التي كانت تمر بها روسيا في تلك المرحلة من تاريخها ، فخلال السنوات الأولى من القرن العشرين كانت روسيا تعانى من فوضى داخلية وتهديد خارجي ، وكان الأغنياء والنبلاء يسعون وراء التسلية والعبث غير مكترثين بالفقراء والكوارث المحدقة بالبلاد . أما الكنيسة فكانت تبحث بين عامة الناس عن رجل يمتلك قوة روحية حقيقية .. وحتى الحكم القيصري كان يبحث عن أشخاص على شاكلة راسبوتين ليضفي على نفسه نوعا من السلطة الإلهية .. وهكذا فأن سمعة راسبوتين كمبشر ، إضافة إلى الإشاعات حول قدراته الخارقة ، كانت قد سبقته إلى المدينة ومهدت له سبيل الوصول إلى صالونات النبلاء وأغنياء العائلات .
راسبوتين وجد طريقه بسهولة إلى مجالس الطبقة البرجوازية العليا في المدينة ، وهناك قابل سيدة تدعى " اولجالوكينا " كانت تعانى من مرض عضال عجز الأطباء عن علاجه ، لكن راسبوتين اكتشف بأن مرضها مرتبط بجذور الاكتئاب لديها وأقنعها بضرورة امتلاكه لروحها وجسدها لكي يتم علاجها .. ولقد نجح العلاج نجاحا باهرا ! .. وهكذا أصبحت " اولجالوكينا " عشيقة راسبوتين وبدأت تعلمه القراءة والكتابة وآداب السلوك ، ثم قدمته إلى صديقاتها الكونتيسات فانبهرن به أيضا ، وسرعان ما اشتهر بقدرته الخارقة على قراءة المستقبل من خلال نظرة العين .
وفى أوائل نوفمبر 1905 ، في قصر أحد النبلاء ، حدث أول لقاء بين " راسبوتين " والقيصر " نيقولاس الثاني " وزوجته القيصرة " الكسندرا " ، واخذ راسبوتين في الحديث بدون أي تكلفة أو صبغة رسمية إلى القيصر الذي تأثر جدا به وهو يروي لهما عن الحياة المظلمة القاسية في سيبيريا وعن فقر وبؤس البسطاء وصبرهم اللانهائي .. وعن وجود الله في كل أحداث اليوم الصغيرة ، وكيف أعطاه الله قوة روحية ليشفى بها أعصى الأمراض .
ولي العهد المريض
كان وريث العرش الوحيد الطفل " اليكسي" مصاب بمرض نادر وخطير وعضال آنذاك ، وهو مرض الناعور ، ويدعى ( الهيموفيليا ) ، بمعنى أن أي نزيف دموي ناتج عن جرح بسيط لن يتخثر وسيبقى الدم يخرج بصفة مستمرة مما يؤدى بحياة المريض . وكانت القيصرة بحاجة إلى من يشفى ابنها لأنها كانت السبب في جلب مرض الناعور إلى عائلة "رومانوف" ، إذ ورثته عن جدتها فيكتوريا ملكة انجلترا ، وكانت ترى في مرض ابنها عقابا من الله .
وفى العام 1906 تم استدعاء " راسبوتين " إلى قصر القيصر ليروا إذا ما كانت قدراته الشفائية مفيدة أم لا ، وكان لوصوله تأثير مهدئ عجيب على القيصرة التي كانت في حالة هسترية وكانت تظن بان ابنها لن يشفى إلا بمعجزة ، ودون أن يرى ولي العهد الصغير طمأن راسبوتين القيصرة وقال بأن مرض أبنها ليس خطير ثم ذهب إلى غرفة الطفل حيث كان راقدا في السرير ، وما أن لمس " راسبوتين " الطفل حتى توقف نزيف الدم في الحال .. ويبدو أنه استخدم التنويم المغناطيسي الإيحائي في علاج الطفل .. وبعد ذالك أصبح تردد راسبوتين على القصر يزداد أكثر فأكثر ، وأدت حادثة في 1912 إلى ترسيخ موقعه في القصر ، حيث كانت القيصرة تركب الخيل مع ابنها الأمير " اليكسى " الذي سقط عن حصانه وأصيب بنزيف وسالت دماؤه ، ولأن راسبوتين كان مسافرا بعيدا عن العاصمة آنذاك ، فقد أرسلت القيصرة برقية إليه تستعجل عودته . وقد ورد راسبوتين على القيصرة ببرقية جوابية قال فيها: " إن الله استمع إلى صلواتك ورأى دموعك ولهذا فأن طفلك لن يموت ، لكن اخبري الأطباء بالا يزعجونه كثيرا وضعي هذه البرقية فوق رأسه".
وبالفعل أخذت القيصرة البرقية ووضعتها على الأمير فحدثت المعجزة وتوقف النزيف! .. وأدت هذه الحادثة إلى ترسيخ وجود راسبوتين في القصر. وبعد أن ضمن حماية القيصرة التي لم تعد ترى احد سواه ولا تسمع لأحد غيره بدأ راسبوتين بانتهاك كل قواعد العفة والشرف ، كان ذوو شخصية مزدوجة ، فبعدما كان يصلى بحرارة لشفاء الأمير كان يذهب مباشرا إلى دار البغاء ، وكان يتفاخر بقدراته الجنسية بنفس القدر الذي كان يتفاخر فيه بقدراته الروحية . كان كنجم الغناء الذي عرف الشهرة بين ليلة وضحاها فأصبح لا يعرف ماذا يفعل بماله وشهرته . كان يجول منازل الارستقراطيين ويستمتع بإهانة من هم أعلى منه مكانة ، وكان يصل به الأمر ليتحدث إلى السيدات ويتصرف معهن بأسلوب مهين وقذر .. والعجيب أن كل السيدات كن يتقبلن كل شيء منه ويفعلن كل ما يطلبه منهن فلقد شكل بلا ريب مصدرا للافتتان والإعجاب ولم تسلم أي امرأة من تصرفاته .
راسبوتين قسم وقته بين شقق الأثرياء وبين عمله الأسبوعي في القصر ، وبعد مدة قصيرة صار مقيم في جناح القيصرة الخاص بعد أن أقنعت القيصر بان هذا الراهب هو الذي يقدر أن يحمي الجميع ، وكان " راسبوتين " يقوم بدور مستشارها الخاص والمؤتمن على أسرارها ، ومن الواضح أنها كانت ترتاح لوجوده كثيرا ، واهم الأسباب في ذلك يعود لتأثيره المهدئ في أبنها الأمير ، لكن بتقرب راسبوتين أكثر فأكثر من القيصرة كان من الطبيعي أن يزداد عدد الحاقدين والمتآمرين عليه ، فقد سلبهم الرجل منزلتهم ، لكن لم يستطع احد إظهار موقف معادي لراسبوتين لان كل من فعل ذالك كان يسرح من عمله فورا .
لقد امتلأت مقاعد الحكومة بصائدي الثروة وغير الأكفاء ومعظمهم كانوا على استعداد لدفع مبالغ مالية كبيرة لراسبوتين للبقاء في مناصبهم ، فتأثير راسبوتين في البلاط القيصري كان يزداد يوما بعد آخر وصار بإمكانه فعل أي شيء كتعيين أسقف وعزل آخر ، حتى انه عين رؤساء وزارة وعزلهم فيما بعد .
الأمل الأخير لوقف هذا الفساد كان معلقا على وجود وزارة مخلصة ، وكان رئيس الوزراء " بيترستالين " قد جمع بالفعل أدلة كثيرة ضد راسبوتين ، كان يريد أن يثبت للقيصر وزوجته أن هذا الرجل سيء السمعة ومتلاعب ، فجمع ملف ضخم بفضائح راسبوتين ، واثبت الملف أن راسبوتين شرير وانه قادر على جعل القيصر وزوجته دمى يحركها كيفما يشاء . وكان الناس يعتقدون بوجود علاقة جنسية بين راسبوتين والقيصرة .
وبعد أن رأى القيصر المعلومات عرضها على زوجته التي ادعت أنها مجرد أكاذيب وان راسبوتين مضطهد حاله حال القديسين .. ولم تمضى فترة حتى اغتيل رئيس الوزراء " بيترستالين " بإطلاق النار عليه في دار الأوبرا بينما كان يحضر عرضا مع القيصر وزوجته ، وبإزاحة ألد أعدائه عاد " راسبوتين " بقوة إلى الواجهة وعاقب جميع الوزراء فعمت الفوضى وعدم الاستقرار في قلب الحكومة المترهلة . وامتلأت صحف بطرسبورج بقصص ضحايا الاغتصاب وصور كاريكاتيرية هابطة وفاضحة كان راسبوتين محورها طبعا ، ففي احد البطاقات البريدية تظهر صورة لراسبوتين وهو يقف خلف القيصرة ويده فوق صدرها ، ويده هنا تدل على الاستبداد وان راسبوتين هو الذي يمسك بكل قدرات الدولة الروسية من خلال سيطرته على القيصرة .
وفى هذا الوضع السيئ دخلت الدولة الروسية الحرب مع الوحش الألماني فامتلأت الصحف سريعا بأسماء الجنود القتلى .. وارتكب القيصر خطأ فادح عندما غادر العاصمة وانضم إلى الجبهة لقيادة الجيش وترك القيصرة " الكيساندرا " لتراقب أداء الوزراء لكنها لم تقم بالمهمة وحدها بل ساعدها " راسبوتين " حيث صار مستشارا لها ، ومنذ هذه المرحلة اتسع نفوذه وازدادت صلاحياته وامتد تأثيره إلى خط الجبهة وبنتائج مدمرة .
كان القيصر " نيقولاس" قائدا عاما للجيش منذ عام 1915 ، وكان مضطرا للأخذ برأي قادته ، وكان هؤلاء يدركون التأثير السيئ لراسبوتين ، ففي رسالة تلو الأخرى كانت القيصرة تلح على زوجها بتنفيذ كل ما يطلبه مستشارها ، كانت تحذره بأن عدم فعل ذلك سيؤدي إلى هلاك روسيا وعندها سوف يفقد سلطانه ولن يجلس ابنه على العرش . وبرغم محاولات القيصر تجاهل رسائلها وطلباتها إلا أنه خضع لها بالنهاية واستبدل وزير الحربية برجل محب للمال وغير كفء هو فلاديمير سوكامنوف ، وهكذا وقع راسبوتين وثيقة موت ملايين الجنود الروس .. كانت كارثة حقيقية .. فقد كان هناك جنود في الجبهة بلا بنادق وبلا رصاص ، وكانوا يرتدون ملابس صيفية والشتاء على الأبواب فتجمدوا حتى الموت .
في الحقيقة كانت روسيا تحارب بعقلية وأسلحة القرون الوسطى ، بينما كان عدوها متسلحا بأحدث تكنولوجيا القرن العشرين ، وكان الجنود الروس يذبحون ذبحا في ارض المعركة .. كانت الخنادق مليئة بمراهقين غير متمرسين بالقتال ، وكان الجنرالات يفرون بسرعة لينجوا بحياتهم تاركين جنودهم ليلاقوا مصيرهم الأسود ، وأخذت الحرب تسير نحو الأسوأ يوما بعد آخر . وفي جميع مدن روسيا كانت طوابير التوابيت القادمة من الجبهة لا تتوقف ، وأخذ الشعب يتذمر من الوضع العام . كانت رسائل الجنود من الجبهة تشير إلى أن الهزيمة لم تكن فقط بسبب عجز الحكومة ولكن بسبب وجود خيانة داخلها ، وراجت إشاعات عن وجود جماعات موالية للألمان تعطيهم أسرار التحركات والمناورات العسكرية الروسية ، وبالطبع كانت القيصرة الألمانية الأصل ومستشارها راسبوتين هما على رأس قائمة المتهمين .
وبالرغم من محاولة مسئولي القصر طمس تلك الاتهامات ، لكن راسبوتين أبقى جذوة النار مشتعلة ، ففي حادثة شهيرة جدا في مطعم " ايار" اخذ راسبوتين بعض بنات الهوى وبد يثمل ويشير ويلمح انه قادر على جعل القيصرة تتصرف كيفما يشاء ، وقيل أنه في إحدى المرات ركض إلى الشرفة عاريا وصاح أمام الجميع انه هو من يحكم روسيا .. وبالطبع لم تكن صحة تلك الإشاعات مهمة بقدر قابليتها على الانتشار بسرعة بين الناس الذين كانوا يصدقون كل ما يقال عن القيصرة وراسبوتين .
صار الجميع في روسيا يعتبرون راسبوتين شيطانا ، أقارب القيصر حملوه مسئولية إضعاف الحكم القيصري ، والشعب أصبح يعارض بشدة نفوذه وسيطرته على الحكم ، وامتدت هذه المعارضة لتشمل كبار الضباط وأعضاء الحكومة .. لقد أجمع رأي الجميع على أن وجود راسبوتين أصبح غير مرغوب فيه .. وهكذا صارت نهايته على المحك .
محاولة القتل الأولى تعرض لها راسبوتين عام 1914 عندما كان يزور عائلته في سيبيريا ، فبعد مغادرته الكنيسة مساءا هاجمته امرأة وطعنته بالسكين في بطنه وهي تصرخ : "لقد قتلت عدو المسيح" . لكن راسبوتين لم يمت ، شفي من جراحه ونجا .
المحاولة الثانية عام 1916 كانت من تدبير الأمير " يوسوبوف" زوج الأميرة ايرينا ابنة أخ القيصر . الأمير كان من أكثر التواقين للتخلص من راسبوتين ، وفي منزله حيكت خيوط المؤامرة بالاتفاق مع أبن عم القيصر ديمتري بافالويتش والسياسي اليميني فلاديمير برشيكفيتش . كانت الخطوة الأولى تتمثل بدعوة راسبوتين إلى قصر "مويكا" بحجة أن زوجة الأمير يوسوبوف تريد مقابلته ، وقد وقع راسبوتين بالفخ ، فأتى إلى القصر مرتديا ملابسه الأنيقة لاعتقاده بأنه سيقابل زوجة يوسوبوف الجميلة ، وحال دخوله القصر أستقبله يوسوبوف بحفاوة ودعاه للنزول إلى القبو لمقابلة زوجته ، وهناك في القبو قدموا له شرابا وكعكا مسموما يكفي لقتل خمسة أشخاص ، بيد أن راسبوتين لم يتأثر بالسم وظل متماسكا صلبا ، عندها نفذ صبر الأمير يوسوبوف فأمسك مسدسه وأطلق النار على ضيفه مباشرة ، فوقع راسبوتين أرضا وظن القتلة بأنه مات فغادروا ، لكن الأمير يوسوبوف عاد بعد قليل لأخذ معطفه ، وبينما هو بالقبو قرر أن يتفحص الجثة ، فقرب رأسه من وجه راسبوتين ليتأكد من موته ، وهنا فتح راسبوتين عينيه فجأة وأطبق بكل قوته على رقبة الأمير وكاد أن يقتله لولا أن رفاق الأمير سمعوا الجلبة والصراخ فعادوا إلى القبو وأطلقوا النار على راسبوتين ثلاث مرات أخرى ، فسقط أرضا بلا حراك . لكن لم يتركوه هذه المرة ، لقد أيقنوا بأنهم أمام شيطان حقيقي وليس إنسانا كسائر البشر ، فضربوه ورفسوه ووضعوه في عربة ثم أخذوه إلى النهر حيث أغرقوه في مياهه الباردة .
بعد عدة أيام طفت جثة راسبوتين على السطح ، وعندما أخرجوه وجدوا خطابا في جيبه موجها إلى القيصر يقول فيه : " أنى أتوقع أن أموت قتلا هذا العام ، فإن كان قاتلي من عامة الشعب والفلاحين فسوف يستمر عرشك بضع سنوات أخرى ، أما إذا كان القتلة من النبلاء فلا عرش لك ولا لأولادك من بعدك " .
وبالفعل .. بعد ثلاثة أشهر فقط من مقتله تحققت نبوءة راسبوتين فأطاحت الثورة الروسية بالحكم القيصري وقضي على آخر جيل من عائلة "رومانوف" ، وبعدها بتسع شهور تم إعدام القيصر " نيقولاس" وعائلته في سيبيريا .
بعض المؤرخون يعتقدون بأنه لو لم يكن هناك " راسبوتين " لما سقطت العائلة القيصرية بهذه السرعة ولا بهذه الطريقة المأساوية ، فوجوده جلب لها كراهية الشعب الروسي الذي كان يرى في راسبوتين تجسيدا مطلقا للشر ، لا بل أن نجاح الثورة البلشفية ودوامها كان له ارتباط براسبوتين أيضا ، فالثورا راحوا يخوفون الناس من خيانة الثورة بزعم أن خيانتها تعنى عودة الماضي بكل مساوئه وظهور راسبوتين آخر .
وبعد نجاح الثورة أقدم بعض العمال على استخراج جثة راسبوتين من قبره وأحرقوها في غابة مجاورة ، وبحسب الشهود ، فأن الحياة دبت بالجثة أثناء حرقها ، فقامت وجلست القرفصاء وبدا كأنها تريد أن تنهض لولا أن النار أحاطت بها من كل جانب وحولتها إلى رماد ! .