علي الرغم من أن الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية قد منحتا الأميرة أولغا لقب "قديسة"، فإن هناك الكثير من الأحداث التاريخية التي تُثبت أن أميرة البلاد الممتدة من بحر البلطيق شمالاً إلى البحر الأسود جنوباً لم تكن ملاكاً كما صورتها رسومات الكنائس.
صحيح أن أولغا أسهمت في نشر المسيحية في أوروبا الشرقية، إلا أن نيران الانتقام التي اشتعلت في قلبها بسبب خسارة حبيبها وزوجها أحرقت -حرفياً- شعباً بأكمله.
الأميرة أولغا.. أرملة مكلومة تحرق شعباً كاملاً
أحبت أولغا زوجها الأمير إيغور حباً شديداً، إذ زُفت إليه وهي لا تزال في الخامسة عشرة من عمرها، وكان إيغور وريث عرش "روس الكييفية"، وهي مملكة ضمت فيما مضى روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا الحديثة، وتكونت من اتحاد القبائل الذين سكنوا تلك المناطق، وتمكن أسلاف إيغور من إخضاعهم وضمهم تحت لواء العاصمة "كييف".
لكن ولسوء حظ إيغور لم يكن الأمير الشاب مرهوب الجانب مثل أسلافه، فقد واجه تمرداً غير مسبوق من قبيلة الدريفليون، التي رفضت دفع الجزية لكييف كما جرت العادة قبل تولي إيغور الحكم.
وبالرغم من تجاهل إيغور للأمر لسنوات، فإنه قرر أخيراً التوجه بجيشه نحو عاصمة الدريفليون "إيسكوروستن" (الآن كوروستين في شمال أوكرانيا)، ليجبرهم على دفع الجزية، وكان ذلك في عام 945.
إيغور يسير إلى حتفه
ووفقاً لما ورد في موقع History Answers، فقد نصب الدريفليون كميناً للملك وقتلوه بأسلوب شنيع للغاية.
إذ يقول المؤرخ البيزنطي ليو ذا ديكون، إن الدريفليون قاموا بثني شجرتين من خشب البتولا على قدمي إيغور، وربطوهما بساقيه، ثم تركوا الشجرتين تستقيمان مرة أخرى، ما أدى إلى تمزيق جسد الملك.
بعد وفاة زوجها اعتلت أولغا عرش كييف كوصية على ابنها سفياتوسلاف البالغ من العمر ثلاث سنوات.
أما الدريفليون الذين تحرروا للتو من سلطة "روس كييف" بقتلهم للملك، فقد قرروا أن يستغلوا انتصارهم ذاك لحكم المملكة بأسرها، وذلك عن طريق تزويج قائدهم "مال" من أولغا زوجة الملك الراحل، ظناً منهم أنها مجرد امرأة يسهل التحكم فيها، لم يكن أولئك المساكين المغترين بنصرهم على علم بالمصير الذي ينتظرهم.
ادفنوهم أحياء
أرسل الدريفليون 20 من وجهاء قبيلتهم إلى كييف لإقناع أولغا بالزواج من أميرهم، لم تُبد الأرملة ممانعة للفكرة، وطلبت من الوجهاء العودة والانتظار في قواربهم ليدخلوا المدينة مجدداً في اليوم التالي بموكب مهيب، إذ ستأمر رجالها بحملهم مع قواربهم إلى القصر، ليدرك أهل كييف مكانتهم العالية ولا يمانعوا من زواج أولغا بقاتل ملكهم السابق.
لم يساور الوجهاء أي شك حول نوايا أولغا، وعادوا بالفعل إلى قواربهم، معتقدين أن المهمة التي أرسلوا بها كانت أسهل بكثير مما توقعوا، وناموا ملء جفونهم.
وفي صباح اليوم التالي حمل الوجهاء بقواربهم من قبل جنود أولغا، لكنهم لم يتوجهوا إلى القصر، إنما إلى قبور حُفرت لهم في الليلة السابقة ليدفنوا هناك على قيد الحياة تحت أنظار الأرملة الغاضبة.
أولغا تحرق النبلاء الدريفليين أحياء في حمامها
لم تكتف أولغا بذلك، ولم يطفئ دفن 20 من الدريفليين أحياء نار غضبها، فبعثت رسالة إلى الأمير "مال" تخبره فيها أنها موافقة على طلبه، لكن عليه أن يرسل لخطبتها أولاً خيرة جنوده ورجال قبيلته في موكب مهيب، تقنع به أهالي كييف بالخطوة التي ستتخذها، وطمأنته أن وجهاءه الـ20 في ضيافتها.
وهذا ما كان، بعث الدريفليون خيرة رجالهم وجنودهم لخطبة الملكة، التي أمرت بتوجيههم إلى الحمام للاغتسال أولاً قبل مقابلتها.
وبينما كان وفد الأمير "مال" يستحمّ، أغلقت أبواب الحمام وأضرمت فيه النيران ليحترق كل من فيه.
الحمائم القاتلة
حتى الآن لم تنفذ أولغا سوى جزء بسيط من انتقامها، فبعد حرق النبلاء الدريفليين أحياء في حمامها توجهت بنفسها مع جنودها إلى العاصمة الدريفلية إيسكوروستن، وبعثت رسالة تخبر فيها الأمير أنها ستصل قريباً، وطلبت منه تجهيز مأدبة جنازة ليتاح لها أن تحزن على زوجها الراحل قبل الزواج من جديد.
استقبل الدريفليون الملكة وجنودها في مأدبة ضخمة وأكلوا وشربوا حتى الثمالة، عندها أمرت أولغا جنودها بتنفيذ الهجوم، حيث قتل 5000 من الدريفليين بحد السيف.
وبعد حمام الدم الذي أريق في العاصمة الدريفلية توسل الناجون من أجل الرحمة، وتعهدوا بدفع الجزية والولاء لكييف.
أبدت أولغا بعض التساهل في هذه المرحلة، بعد أن قتلت الآلاف من الدريفليين، وطلبت أن يقوم الناجون بتقديم 3 حمائم لها من كل بيت، بدلاً من دفع الجزية، وأوهمتهم أنها لا تريد أن تُثقل عليهم بالجزية كما فعل زوجها.
خرجت أولغا من العاصمة عندما حل الظلام، لتقف وجنودها على أطراف المدينة، وأمرت أن يربط بقدم كل حمامة قطعة قماش طويلة بنهاية مشتعلة، ثم تم إطلاق سراح الحمائم التي عادت مسرعة إلى أعشاشها لتُضرم النار في منازل وأشجار الدريفليين.
كان من المستحيل إطفاء النيران الملتهبة، لم ينجُ منزل أو شجرة في المدينة، أما البشر الذين حاولوا الهرب من الحرائق فترصّد لهم جنود أولغا، ليقتلوا الكثير منهم ويأخدوا من تبقّى كعبيد لهم… هنا فقط عندما احترقت مدينة الدريفليين وأبيدت عن بكرة أبيها انطفأت نيران الغضب في صدر الأرملة المكلومة.
لماذا أُطلق عليها لقب "قديسة" رغم انتقامها الدموي؟
بعد 600 عام من وفاة أولغا، أي في عام 1547، أطلقت عليها الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لقب قديسة، بينما قامت الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، والكنيسة الكاثوليكية اليونانية الروثينية، والكنيسة الكاثوليكية اليونانية الأوكرانية بإعطائها لقب " Isapóstolos"، الذي يعني حرفياً "مساوٍ للرسل".
وربما تتساءلون، كيف لملكة قتلت شعباً كاملاً بهذه الوحشية أن تصبح قديسة؟
ببساطة كانت أولغا أول حاكم يعتنق المسيحية من "روس كييف"، ويعزى إليها الفضل في تقبل المسيحية وانتشارها في أوروبا الشرقية، ورغم أن ابنها مات وثنياً فإن حفيدها سار على خُطى جدته، وسعى إلى تنصير مملكته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق